مسؤولية الدفاع عن 'الخليج' والمشرق العربي، وتجنيب المنطقة الكوارث، تقع على عاتق المملكة وحدها؛ لأنها الدولة الأقوى والأعرق، وانطلاقاً من واقعيتها وحسها الديني والقومي الصادق، أعلنت مبادرتها للحوار مع إيران، لحفظ أمن المنطقة

الحوار هو وسيلة التواصل والتفاهم بين البشر، أفراداً كانوا أم جماعات أم دولا؛ ولا تستقيم الحياة إلا به وعن طريقه. ففي حال انعدام لغة الحوار الذي يؤدي للفهم والتفاهم؛ يحل محله، سوء الفهم والكره، ومن ثم النزاع الذي يؤدي بدوره إلى صدامات وحروب. قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). هذه الآية الكريمة تلخص ما ذكرته قبلها؛ حيث التعارف لا يتم إلا عن طريق التواصل، ولا يستقيم التواصل إلا بالحوار الذي بدوره يؤدي إلى فهم المتحاورين بعضهم بعضا، ومن ثم تفاهمهم على صيغ وحلول مشتركة، تجنبهم مغبة النزاعات.
وعلى أساس هذه القاعدة الربانية القويمة، يعم السلام بين البشر ويتمكنون من خلال تفاهمهم وتكاتفهم من المشاركة في إعمار الأرض، التي هي غاية خلق الله لخلقه. وأكدت الآية الكريمة في ختامها أن أكرم الناس عند الله، من يتقون النزاعات والحروب وذلك بسبقهم غيرهم إلى لغة الحوار والتفاهم؛ ونزع فتيل الشرور، بشكل عام.
مبادرة المملكة بدعوتها، على لسان، وزير الخارجية، الأمير سعود الفيصل، إلى وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، السيد محمد جواد ظريف، لزيارة المملكة؛ كبداية للتفاهم بين المملكة والجمهورية الإسلامية؛ حول النزاعات والصراعات العبثية وغير المبررة، والتي تعج بها المنطقة؛ والتي تؤثر سلباً، مباشرة وغير مباشرة على سلامة وأمن السعودية وإيران والمنطقة بشكل أوسع. أقول: هذه المبادرة تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن السعوديين هم الأتقى، حسب الآية الكريمة. حيث بادرت الحكومة السعودية، قبل غيرها، لوقاية المنطقة من النزاعات والصراعات والحروب الدائرة فيها، عبر التعارف والحوار والتفاهم. وذلك ليس فقط لتجنيب المنطقة ويلات ما يدور فيها من نزاعات وصراعات عبثية، وهذا واجب ومهم بحد ذاته؛ ولكن أيضاً حتى لا يستفيد منها أعداء المنطقة الحقيقيون وهم الصهاينة. وهذا دليل آخر على صدق الآية الكريمة، والتي تطالب الناس، بشكل عام، والمسلمين، بشكل خاص، بالتعارف حتى لا تحدث الشروخ والانقسامات بينهم؛ فيتفرقوا وتذهب ريحهم، ويصبحوا فريسة سهلة؛ لأعداء الله وأعدائهم. إذاً ومرة أخرى كذلك يتضح أن من يبادر لوقاية العالمين العربي والإسلامي من النزاعات والفتن، لحماية أمنه وكرامته ومقدساته، من العرب والمسلمين؛ يستحق أن يكون وبلا جدال هو الأتقى.
أي مبادرة سلام أو تفاهم، تطرح على العلن، لا تصدر إلا من صاحب حق ومنطق سليم؛ كون مبادرته نابعة من ثقة تامة وحصينة وحصيفة بما يملكه من حق ومنطق سليم. فالضعيف وصاحب المنطق المتخبط، لا تصدر منه مبادرات سلام وتفاهمات علنية؛ وإنما تصدر منه تنازلات مهينة، تدار من تحت الطاولات ومن وراء الكواليس، وبسرية تامة؛ حتى لا تنفضح حجم تنازلاته أمام شعبه وأمام العالم أجمع. لكون صاحب المبادرات العلنية واثقا من نفسه وشرعيته وقدراته؛ أما صاحب المبادرات السرية والخفية، فهو الضعيف المهزوز، الذي هو مستعد لتقديم تنازلات، قد تكون استراتيجياً مهلكة ومدمرة لبلده، من أجل أن يبقى على سدة الحكم.
ليس من المؤكد أن المبادرات العلنية تؤدي إلى حلول جاهزة وسريعة؛ ولكن من المؤكد أنها تنزع فتيل كارثة آنية قابلة للانفجار، وفي نفس الوقت، تؤسس لتفاهمات استراتيجية على المدى المتوسط والبعيد. وفي حال لم تنجح مبادرة التفاهم العلنية، في نزع فتيل الكارثة، المراد تجنبها، لا سمح الله؛ هنا يكون صاحب المبادرة قد أخلى مسؤوليته الأخلاقية والتاريخية من مسؤولية حدوث الكارثة. وهذا انتصار أخلاقي وتاريخي، له على خصمه؛ وهو الانتصار الأبقى من الانتصار المادي المؤقت. حيث الأيام تداول بين الناس؛ قال تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس). ومن هذا المنطلق السياسي والأخلاقي والديني؛ يكون صاحب مبادرات التفاهم والتصالح السباق إلى الفوز في كلتا الحالتين، إن هي نجحت مبادرته، فهو ما يرجوه، وإن لم تنجح فاز بكونه الأتقى والأصلح بين الفريقين، وشهد له الله بذلك وخلقه، وهذا هو الفوز العظيم.
وللأسف الشديد، وبعيداً عن المنطق السياسي والأخلاقي، هنالك من يعتقد ـ وبدون أدنى حس أو مسؤولية أو وعي بمجريات الأمور ومنطق الأشياء ـ بأن المبادرة السعودية للتفاهم مع إيران على أمن وسلامة المنطقة، وفي هذا الوقت بالذات، تدل على ضعفها وسوء إدراك منها بالأحداث القائمة والمحيطة بها. هذه النظرة الانفعالية القشرية المتشنجة لما يدور في منطقتنا من أحداث، لا تنتج غير رؤية سوداوية قاتمة، تنتج بدورها المزيد من الكوارث والويلات، أو على أقل تقدير تطيلها، وتعقدها أكثر.
ذكرت في مقالات سابقة في صحيفة الوطن، عن صراع المحاور في المشرق العربي وحددت أن إيران والسعودية كل منهما يترأس الآن ويقود محورا، وهذا من جراء إرث تأريخ - جيو - استراتيجي، ويمكن للقارئ الكريم الاطلاع عليها في: (صراع المحاور في المشرق العربي/ عبدالرحمن الوابلي). بغض النظر عن البعد التاريخ – جيو – استراتيجي، للتنافس بين المحورين؛ سأعيد التذكير بالمحور السعودي والتصدعات التي حدثت فيه؛ والتي لا دخل للسعودية فيها؛ ولكنها تحملت عبئه وحدها. السعودية كانت حلقة قوية وفاعلة في المحور العربي، الرياض – القاهرة – دمشق؛ منذ هزيمة العرب بحرب 1967، التي أفرزت انتصار أكتوبر عام 1973، وحفظت التوازن والأمن في المشرق العربي.
ولكن بعد خروج مصر ثم سورية من المحور العربي في المشرق العربي. وقبلهما العراق، تكدست هموم ومسؤوليات أمن المشرق العربي، على كاهل المملكة وحدها. إيران في عهد الشاه وحتى بعد الثورة الإسلامية، كانت منكفئة داخل حدودها، لا رغبة منها؛ ولكن عدم استعجالها للعب دورها في المنطقة، بدون مبرر مقنع لذلك. بعد الحرب الأميركية على العراق، عام 2002م وتدمير الدولة العراقية؛ واشتعال سعير ما سمي بـالربيع العربي، حيث وصل سعيره إلى سورية، وتدخل إسرائيل وتركيا في تسعير الأحداث، مع بعض الأطراف الغربية؛ شجع إيران على التمدد في العراق وسورية، وتثبيت وجودها في لبنان، لحماية أمنها القومي المهدد بهذه التدخلات الإقليمية والدولية على حدودها ومصالحها في المنطقة.
الجامعة العربية فقدت دورها الفاعل في حل أزمات المنطقة العربية، وحتى مجلس التعاون الخليجي، فقد بعض تكاتفه وتماسكه للتصدي الجماعي للأخطار المحيطة والمحدقة بدوله. مما جعل مسؤولية الدفاع عن الخليج العربي بشكل خاص ومنطقة المشرق العربي بشكل عام، وتجنيب المنطقة الكوارث المرعبة المحدقة بها؛ تقع على عاتق المملكة العربية السعودية وحدها. لأنها الدولة الأقوى والأعرق في الخليج والمشرق العربي. وانطلاقاً من واقعيتها وحسها الديني والقومي الصادق؛ أعلنت المملكة مبادرتها للحوار مع إيران، لحفظ أمن المنطقة كلها بما فيه أمن إيران والسعودية.
وهذا ما أفرح وأثلج صدور كل من يعي المسؤولية التاريخية والأخلاقية في المنطقة والذين بادروا بالترحيب بها ودعمها. وهكذا خرجت المبادرة السعودية، من كونها مبادرة سعودية بحتة؛ لتصبح مبادرة لمنطقة المشرق العربي، بشكل عام؛ ولا تخص السعودية وحدها. فهل تشارك إيران السعودية حس المسؤولية الدينية والتاريخية والأخلاقية والسياسية، وتستجيب لمبادرة المشرق العربي، وبلا تردد، وأن تسعى إلى إنجاحها، بكل الوسائل والطرق. فأمن المنطقة هو في الأول والأخير أمن الجميع، بلا استثناء، عدا العدو الصهيوني والحاقدين على المنطقة.