د. علي محمد العواجي

ساد الاعتقاد أن أئمة الحديث يرجعون إلى العجم، وفي الحقيقة أن هؤلاء الأئمة الذين وفقهم الله لحفظ السنة كانوا كما قال المزي: حفاظا عالمين وجهابذة عالمين وصيارفة ناقدين.
ونتيجة لأن علماء الحديث قد تفرقوا في الأمصار، وبعضهم ولد بها فقد نسبوا إلى تلك الأماكن، ومنهم الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل، الذي حل بـبخارى وعُرف بالبخاري، والإمام أبي الحسين مسلم ابن الحجاج النيسابوري، الذي نُسب إلى نيسابور، والإمام أبي داوود سليمان بن الأشعث الزهراني الأزدي السجستاني الذي نسب إلى سجستان، والإمام أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي الذي حل بـترمذ ونسب إليها، والإمام أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي الذي حل بـنسا ونسب إليها، والإمام محمد بن يزيد المعروف بابن ماجة الذي حل بـقزوين ونسب إليها.
ومن الواضح أن أسماء هؤلاء الأئمة عربية خالية من العجمة، وكذلك أسماء آبائهم وأجدادهم، عدا الإمام ابن ماجة الذي كانت أمه فارسية اسمها ماجة وبها عُرف.
وبفضل من الله استطعت من خلال دراسة عن ولاية الجهوة الأثرية وحازت هذه الدراسة على منحة وجائزة الأمير سلمان بن عبدالعزيز ـ يحفظه الله ـ للدراسات والبحوث، وعنوانها: الجهوة.. تاريخها ونقوشها الإسلامية، استطعت العثور على نقشين للإمامين ابن ماجة وحفص بن عمر، ومن خلال هذين النقشين تم التوصل إلى نسبهما، فالإمام ابن ماجة اسمه: محمد بن يزيد الربعي، ولم يعرف من هو المراد من ربيعة المنسوب إليها على حسب تعبير الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، الذي راجع طباعة كتاب سنن ابن ماجة وأشرف عليه.
إلا أن العثور على نقش الإمام ابن ماجة في الجهوة التابعة لمحافظة النماص أثناء الدراسة الميدانية، أثبت أن الإمام ابن ماجة ربعي شهري حجري، وقد قال عنه ابن خلكان: ربيعة اسم لعدة قبائل لا أدري إلى أيها يُنسب المذكور.
من هنا، فإن وجود هذه النقوش يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن ابن ماجة من قبيلة ربيعة بن شهر بن الحجر بن الهنو بن الأزد، إضافة إلى دلائل كالشمس في كبد السماء، ومنها:
(1) وجود نقش الإمام ابن ماجة إلى جانب نقش راوي الحديث عبدالله بن إياس، وكان قد عُرف والده إياس بأبي فاطمة أبو فاطمة، ونسب نفسه إلى ربيعة الحجر، وجاء النقش على هذا النحو: ترحم الله على عبدالله بن إياس الحجري ثم الربعي.
وقد أزال هذا النقش الخلاف بين ابن الأثير وابن حجر حول اسم أبو فاطمة، وهل هو إياس أم أنيس، وهو أحد صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأحد رواة الحديث، وقد روى عنه ابنه عبدالله الذي ورد في النقش، فقد روى عنه حديث أبيه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم جالسا ـ فقال: من يحب أن يصح فلا يسقم... الحديث . وروى عنه مسلم قال: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أكثر من بعدي من السجود، فإنه ما أحد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط عنه بها خطيئة.
(2) وجود اسم حاكم الولاية: الجابر بن الضحاك الربعي الذي عاصر ابن ماجة.
(3) وجود نقش ابن راوي الحديث أشعث بن عبدالله الربعي الذي نسب نفسه فيه إلى ربيعة.
(4) وجود عدد من النقوش لعدد كبير من رجال الحديث الذين روى عنهم ابن ماجة، أو ممن جاؤوا ضمن سنده، ويُعد هذا من أقوى الدلائل على أن ابن ماجة ربعي شهري.
ويأتي من أبرز هذه الأسماء: عبدالله بن عمر، رضي الله عنه، عطاء بن أبي رباح، أشعث بن عبدالله الربعي، عبدالله بن مسلم الزهري الذي ذكره ابن ماجة باسم ابن أخي شهاب، وعبيدالله بن أبي يزيد الذي جاء نقشه في ذات الصخرة مع ابن ماجة، وعبدالرحمن بن نمران الذي روى عنه ابن ماجة حديث الكراث ولم يرو عنه غيره، ومن خلال نقش ابن نمران اتضح أن اسمه عبدالرحمن وليس كما أورده المزي عبدالله، وأن ابن ماجة ليس واهما كما ذكر المزي؛ إذ إن ابن ماجة وابن نمران من ذات المنطقة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه توجد قرية باسم نمران إلى الآن بهذا الاسم. يُضاف إلى ذلك نقش راوي الحديث اسماعيل بن عبدالله الذي روى عنه ابن ماجة حديثا واحدا عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مت فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس.
ويأتي ممن روى عنهم ابن ماجة ووردت نقوشهم في الجهوة: محمد بن يحيى، ويحيى بن عبيدالله، والأحاديث التي رواها عنهم ابن ماجة كثيرة في كتب السُنن.
أما الإمام حفص بن عمر فقد روى عنه ابن ماجة قال: حدثنا علي بن محمد وأبو عمر حفص بن عمر قالا: حدثنا زيد بن الحبوب، حدثني عمر بن أبي خثعم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى ست ركعات بعد المغرب لم يتكلم بينهن بسوء عدلت له عبادة اثنتي عشرة سنة.
وقد ورد نقش حفص بن عمر في الجهوة إلى جوار نقش ابن ماجة بهذا النص: اللهم اغفر لحفص بن عمر الشهري.
وقد قال الذهبي عن حفص بن عمر: الإمام العالم الكبير شيخ المقرئين. وقال عنه المزي: روى عنه جماعة من رواة الحديث منهم ابن ماجة، ومعلوم أن حفص بن عمر اختلف في نسبه، فيقال دوري نسبة إلى الدور، ويقال بصري نسبة إلى البصرة، ولكنه أثبت نسبه وقال: إنه شهر. وبما أن الإمام ابن ماجة ربعي، فهو شهري أيضا، فكل ربعي شهري.
ومن هنا فإننا نخلُص إلى أن الإمامين ـ رحمهما الله ـ كلاهما من ربيعة بن شهر بن الحجر بن الهنو بن الأزد.
وعلى أية حال، فإن وجود مدرسة للحديث في الجهوة كان أقطابها من الصحابة والتابعين بهذا العدد الكبير من الأسماء على مستوى العالم، لهو خير دليل على أن ابن ماجة وحفص بن عمر من أبناء هذه البلاد المباركة.
وفيما يلي استعراضٌ لأسماء عدد من رواة الحديث الذين وردت أسماؤهم في نقوش ولاية الجهوة:
عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعبدالله بن إياس أبو فاطمة الربعي، وأبو الزعراء الكبير عبدالله بن هانئ الأزدي الذي أزال نقشه في الجهوة الخلاف في الاسم بين أبو الزعراء الكبير وأبو الزعراء الصغير، وعبيدالله بن أبي يزيد، وعبدالله بن خالد، وعبدالرحمن بن عطاء، وعبدالله بن محمد بن الأسود، وعبد الرحمن بن نمران، وسعيد بن عبدالله الحجري، وعطاء بن أبي رباح، وعبدالله بن مسلم الزهري، وعبدالله بن عبدالملك بن حبيب، والوليد بن مروان، ومحمد بن جهور، ويحيى بن عبيدالله، وعبدالله بن سعيد بن خازم، وإسماعيل بن عبدالله، وعبدالله بن الأشعث الربعي.
وليس هذا فحسب، فقد أثبت البحث أن العلاقة بين الإمامين: حفص بن عمر، وابن ماجة ليست علاقة أستاذ بتلميذه، أو تلميذ بأستاذه، فكلاهما تتلمذ على يد الآخر، وإنما علاقة قرابة فكلا الرجلين من ربيعة بن شهر بن الحجر بن الهنو بن الأزد.
ولا صحة إطلاقا لما يعتقده البعض من أن الجهوة تعد الآن حيا من أحياء النماص أو قريةً من قراها، إذ إن الهمداني ذكر أنها أكبر من جرش، وجرش الحالية التي قامت الهيئة العامة للسياحة والآثار بإقامة سور عليها أكبر مئة مرة من هذا الحي أو هذه القرية، فكيف تكون هذه القرية الصغيرة هي المعنية بالجهوة التي عناها الهمداني؟!
يُضاف إلى ذلك أن السياق الجغرافي لخط سير الهمداني، يتفق مع الجهوة التي تم اكتشافها، ولا يتفق لا من قريب ولا من بعيد مع موقع هذه القرية، وما يزال طريق الجمالة القديم واضحا وحوله مئات النقوش، وأكبر دليل على عدم صحة هذا الاعتقاد في جهوة النماص وجود نقوش أسرة بني بكر ـ الذين ينتمي إليهم أصحاب هذه القرية ـ في الجهوة التي تم اكتشافها، ونقش حاكم الجهوة الذي ذكره الهمداني، وهو الجابر بن الضحاك، وكذلك نقوش أسرة بني أثلة، فهذه هي الجهوة الحقيقية التي كانت موطن هذه القبائل الأصيلة، أما القرية التي تُعد اليوم من قرى مدينة النماص ويُطلق عليها الجهوة، فلا يتجاوز عمرها مئتي عام تقريبا، وهذا يعني أنه لا صحة إطلاقا لهذا الاعتقاد، ولا علاقة له مطلقا بالجهوة التي ذكرها الهمداني.