قدمت دول مجلس التعاون تعهدات مالية ضخمة للدول العربية التي تمر بظروف صعبة، كما ينصح صندوق النقد الدولي فإنها دون هذه المعونات ستطول الفترة 'الانتقالية'، ويزداد معها عدم الاستقرار لأنظمتها، والمعاناة لمواطنيها
في الأسبوع الماضي، أصدر صندوق النقد الدولي دراسة موسعة عن التداعيات الاقتصادية لـالربيع العربي. وتتناول الدراسة الأوضاع الاقتصادية في مصر والأردن والمغرب واليمن وتونس وليبيا، وتخلص إلى نتيجة متشائمة، هي أن تلك الأوضاع في مجملها مازالت صعبة، وأن الأولوية للفترة القادمة ستكون لمحاولة استعادة الاستقرار، دون أمل كبير في تحقيق نمو ملموس، مع استثناءات محدودة.
وهذه الدراسة، بعنوان: نحو آفاق جديدة: التحول الاقتصادي العربي في خضم التحول السياسي، هي أعمق دراسة منهجية قامت بها منظمة دولية عن الآثار الاقتصادية لما يسمى بالربيع العربي. وكما هو متوقع، لم يتطرق الصندوق إلى مسؤوليته هو في الأوضاع الاقتصادية التي سبقت موجة الاحتجاجات في العالم العربي، كما أغفل دوره الممكن لمساعدة تلك الدول على الخروج من أزمتها الاقتصادية.
وبهدف التعريف بالدراسة، عقد الصندوق اجتماعات موسعة من الرباط إلى عَمّان، حيث ناقش خبراء الصندوق ما توصلوا إليه من نتائج مع المسؤولين والخبراء في الدول العربية المعنية، وأكدوا الحاجة الملحة لتبني إصلاحات اقتصادية جريئة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحقيق نمو يوفر الوظائف للمواطنين.
وقالت مديرة الصندوق كريستين لاغارد إن النمو الاقتصادي مازال منخفضا والوظائف التي تم إيجادها مازالت غير كافية لتطلعات المواطنين، الذين خرجوا في الشوارع منذ ثلاث سنوات، للمطالبة بفرص اقتصادية أفضل. ولذلك فإن الأولوية الآن يجب أن تكون لإطلاق إصلاحات طموحة ترفع معدلات النمو وتخفض معدلات البطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب.
فعلى الرغم من بعض الحالات الإيجابية، خاصة في المغرب والأردن، فإن الصورة التي ترسمها الدراسة قاتمة كثيرا. ولو شملت الدراسة سورية والعراق ولبنان، لكانت أكثر قتامة. وتُظهر الدراسة أن تلك الدول قد انتقلت من سيئ إلى أسوأ، وتتوقع أنه ما لم يتم تطبيق إصلاحات اقتصادية ومالية قوية، فلن يكون التعافي الاقتصادي المأمول كافيا لتخفيض معدلات البطالة بشكل ملحوظ.
وكما هو معروف، كانت الظروف الاقتصادية في قلب الأزمة حينما انتشرت الاحتجاجات في الدول التي تخصها هذه الدراسة. إذ نتج عن مزيج السياسات الاقتصادية الخاطئة مع تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية تشوهات اقتصادية حادة، أبرزها ارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب المتعلم. ومن المفارقة أن بعض تلك السياسات كانت مبنية على نصائح المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل صندوق النقد الدولي.
وبعد ثلاث سنوات، كما تُظهر الدراسة، أصبحت الظروف الاقتصادية أشد سوءا. فعلى سبيل المثال، كانت معدلات البطالة مرتفعة في تلك الدول قبل عام 2011، خاصة بين الشباب، ولكنها اليوم أعلى بكثير. ولذلك تعتبر الدراسة أن إيجاد الوظائف للمواطنين هو مفتاح حل الأزمة، وتنعكس هذه الحقيقة في توصياتها، التي يمكن اختزالها في الوظائف، والوظائف، والمزيد من الوظائف. ولتحقيق ذلك، تنصح الدراسة بإصلاح سياسات التعليم وأسواق العمل، وباختيار سياسات النمو التي ينتج عنها أكبر عدد من الوظائف، مما يتطلب إعادة توجيه الموارد نحو تعميق التكامل التجاري، وتخفيف القيود على القطاع الخاص، وتشجيع ريادة الأعمال والاستثمارات الخاصة، وزيادة فرص التمويل للقطاع الخاص، خاصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إذ تتأخر الدول المشار إليها عن بقية العالم في هذا المجال. ووفقا لدراسة الصندوق، تتراوح معدلات بطالة الشباب بين 18% و30% في مصر والأردن والمغرب وتونس. وفي مصر، مثلا، انخفضت فرص الحصول على عمل من 80% إلى 30%. وتختلف أسباب الأزمة في بعض التفاصيل بين دولة وأخرى، ولكنها تشترك في مشكلة القيود الحكومية، وسيطرة القطاع الحكومي في التوظيف، كأكثر القطاعات جاذبية للشباب، وفشل النظم التعليمية في توفير المهارات التي يحتاج إليها سوق العمل.
فعلى سبيل المثال، أدت سيطرة القطاع الحكومي على التوظيف إلى تحديد نوعية الخريجين الذين تخرجهم الجامعات، وبالتالي عدم توافر الخريجين الذين يحتاج إليهم القطاع الخاص، مما أسهم في تعميق البطالة. وفي الوقت نفسه فإن شروط العمل الحكومي وضمانات التوظيف وعدم الفصل، إضافة إلى المرتبات العالية نسبيا، أدت إلى صعوبة توظيفهم في القطاع الخاص.
ويقع جزء كبير من اللوم على النظم التعليمية، إذ تركز على التخصصات النظرية من جهة، وعلى تزويد خريجيها بالشهادات الدراسية المطلوبة للتوظيف في القطاع الحكومي، وليس على تزويدهم بالمهارات التي يحتاج إليها القطاع الخاص.
ويرى صندوق النقد الدولي أن دعم المجتمع الدولي لهذه الدول ضروري؛ لمواجهة التحديات الضخمة التي تواجهها. ويقترح أن يتم ذلك من خلال تسهيل التبادل التجاري معها، بحيث ترفع الدول المتقدمة القيود والرسوم التي تحد من نفاذ منتجات هذه الدول إلى أسواقها، كما يقترح تزويدها بالمساعدات الفنية والاقتصادية، وتوفير التدريب والدعم الفني لجهازها الإداري المنوط به رسم وتنفيذ السياسات الاقتصادية.
ومن الواضح أن المجتمع الدولي، باستثناءات محدودة، تأخر في الاستجابة العملية للتحديات الاقتصادية التي تواجهها هذه الدول العربية، وفي حين لا تترد معظم الدول الكبرى في تقديم النصح والتوجيه السياسي، فإنها تتردد في تقديم المساعدات الاقتصادية لها.
وبالمقابل قدمت دول مجلس التعاون تعهدات مالية ضخمة لمعظم الدول العربية التي تمر خلال هذه الظروف الصعبة، بما في ذلك مصر واليمن والأردن والمغرب، ولعل بقية الدول الغنية تحذو حذوها، فكما ينصح صندوق النقد الدولي، فإنها دون هذه المعونات ستطول الفترة الانتقالية في هذه الدول كثيرا، ويزداد معها عدم الاستقرار لأنظمتها والمعاناة الإنسانية لمواطنيها.
ولكن المساعدات وحدها لن تكفي، بل تحتاج هذه الدول إلى تحفيز الاستثمار، المحلي والأجنبي، بالوسائل كافة؛ لإعادة تدوير عجلة الاقتصاد وتوفير الوظائف.