ستجدها أينما ولّيت وجهك، أو قادتك الأقدار لأحد المرافق الحكومية المصرية، حتى الشركات الخاصة، وبالطبع لن تشاهد كيانا علنيا، لكنها حاضرة كالكهرباء، لا تراها لكن معظم وسائل الحياة لا تعمل بدونها، هكذا يمكن تشبيه مؤسسة الشلّة التي تحكم مصر، وربما معظم دول المنطقة، فهي تتجاوز الحدود أحيانا كشلل الإخوان فأعضاؤها لا تجمعهم وحدة التوجهات الفكرية فحسب، بل يكفي توافق مصالحهم، وتجدر الإشارة إلى أنه خلافا لمؤسسات الدولة فإن مؤسسة الشلة أكثر مرونة وبراجماتية، فتستقطب كوادر جديدة وتستغني عمن انتهت صلاحيتهم، لكنها أكثر صرامة بشأن الالتزام بأهداف الشلة غير المكتوبة، وهذه إحدى أخطر المهام التي ننبه لخطورتها، ليس في مصر وحدها، لكن في شتى بلدان المنطقة لتشابه الثقافات.
وتوحشت مؤسسة الشلّة بمصر وكانت إحدى أخطر أسباب النهاية الدرامية لحكم مبارك، حينما التف حول ابنه جمال مجموعة انتهازيين اشتهروا حينها بتعبير شلة جيمي التي تغولت على مؤسسات الدولة، واستبعدت الساسة المخضرمين بالحزب الوطني الظهير السياسي لنظام مبارك وسفهتهم باعتبارهم عجائز الفرح، واحتكرت السلع الاستراتيجية ضمن منظومة فساد تبجحت واستفزت المجتمع بأسره، خاصة أبناء الريف والعشوائيات العاطلين الفقراء.
كانت هذه الشلة الرئاسية حالة نموذجية لعدد يستحيل حصره من الشلل التي تفشت في شتى أنشطة الحياة من السياسة للبزنس، مرورا بالإعلام ومؤسسات الدولة وصولا للنوادي الرياضية، كانت مؤسسة الشلة المُحرك الحقيقي بآليات تقوم على تبادل المصالح بين أعضائها، فيمنحون الفرص لبعضهم بعضا، ويروجون لأنفسهم ويستبعدون وبالأحرى يدهسون مواهب وخبرات كانت البلاد بحاجة مُلحة لخدماتهم، لكنهم بعدما اكتووا بنيران مؤسسة الشلة هاجر بعضهم للخارج، وآخرون للداخل منكفئين على مراراتهم، الأمر الذي شكّل مناخا مواتيا للمؤامرات الدولية والإقليمية التي استهدفت مصر ودولا أخرى فيما اشتهر باسم ثورات الربيع العربي التي مازالت تحيطها علامات استفهام، وتتكشف ملابساتها وفصولها يوما تلو الآخر.
المثير للقلق أن مؤسسة الشلّة لم تزل حاضرة، وإن غيرت قواعد اللعبة بما يتماشى مع التطورات والمستجدات على الساحة السياسية والاجتماعية، وتتجلى بأكثر صورها فجاجة في الأوساط الإعلامية الخاصة، فهناك نحو خمس شلل، لولا اعتبارات الزمالة لذكرت الأسماء صراحة، فهي معروفة لدى العاملين بالصحافة والفضائيات المصرية، فترى هذه الصحيفة تنشر الأخبار الدعائية للترويج لفضائية ما التي تُلح على مواد تلك الصحيفة، وربما منحت رئيس تحريرها أو من يرشحه لتقديم برنامج عبرها، لتصل المصالح المتبادلة لمرحلة اقتسام الكعكة الإعلانية، ولهذا نرى صحفيين وإعلاميين تجمعهم علاقاتٍ تتجاوز حدود المهنية.
وكما أسلفنا فإن مؤسسة الشلّة متفشية كالفيروس بشتى مناحي الحياة، لكن خطورتها تتفاقم حينما يتعلق الأمر بتشكيل وعي المواطنين، فهذه الكيانات غير المرئية تجمع إعلاميين وصحفيين ورجال أعمال يمتلكون وسائل الإعلام لتتحول هذه المنظومة إلى جماعات ضغط تؤثر بدرجة أو أخرى على صنّاع القرار، خاصة خلال المرحلة الانتقالية التي تتشكل فيها مؤسسات الدولة.
ومن داخل هذا المجال أدعو المجتمع الإعلامي المصري إلى معالجة مساراته وفق ضوابط مهنية للتصدي لأي محاولة للتأثير على الحريات الإعلامية، فالفساد وغياب تكافؤ الفرص هما إفراز طبيعي لتغول مؤسسة الشلّة بأوساط صناعة الإعلام، وربما يقول أحدهم إن الميديا عمل جماعي بطبيعته، وهذه كلمة حق يُراد بها الباطل، فالعمل الجماعي يختلف جذريا عن سطوة مؤسسة الشلة بخبراتها على مسؤولي الصحف والفضائيات خاصة لدى مواجهة أزمات تتعلق بالمؤسسة، وتبدأ المخاطر عندما يتكاتف أعضاء الشلة لمساعدة المسؤولين، لأنهم يستطيعون بعلاقاتهم المتشابكة ومهاراتهم حلّ المشكلة، لكنهم بالمقابل يحاصرون المسؤول الذي دعموه، ليجد نفسه طواعية أو دون وعي جزءا من مؤسسة الشلّة.
ويحمل مصطلح مؤسسة الشلّة تناقضا، فالمؤسسة بطبيعتها كيان اعتباري ضروري لتنظيم المجتمعات ومرافق الدول، غير أن الشلّة كيانات موازية تمتطي ظهر الوطن وتقتصر خدماتها على أعضائها الملتزمين بقواعد صارمة وغير مكتوبة تشبه أجواء الماسونية بسريتها ونفوذها، وتتجاوز دور المؤسسات، ولعلنا لا نبالغ حين نرى أنها تنسف مفهوم المواطنة الذي لم يتبلور بعد واقعيا ليلبي طموحات الأجيال بمجتمع تحكمه معايير شفافة، تكفل فرصا متكافئة، وتحتضن المواهب وتضخ دماء جديدة.
ووسط حزمة تحديات تواجه الجمهورية الجديدة بمصر تبرز أهمية تفكيك مؤسسة الشلة والتصدي لمحاولاتها محاصرة دوائر صناعة القرار وإقصاء الكفاءات غير المنضوية تحت لواء تلك الشلل التي تتبنى قواعد فاسدة مثل شيلني وأشيلك، ويوفرون لبعضهم بعضا فرص الارتقاء، فهذا يفتح أبواب المسؤولين المغلقة، وذاك يُقدمهم عبر شاشات الفضائيات، وهؤلاء يصفونهم بصحفهم بالأفضل والأنصع موهبة، ليظل المجتمع يدور في حلقة مُفرغة.