يكفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حقوقاً وكرامة في العمل، ولذلك يجب أن تستمر هذه الكرامة حتى بعد التوقف عن العمل، يجب ألا يشعر المواطن أنه مستلب من قبل أي من مؤسسات الدولة، فهذه المؤسسات بأنظمتها الحالية تنظر للموظف على أساس أنه صيد ثمين
تعتبر المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية هاموران كبيران حيث إن لدى هاتين المؤسستين (الحكوميتين) أكبر صندوقين سياديين في البورصة السعودية. وتنفذان مشاريع عملاقة في بلادنا من أهمها وآخرها: مركز الملك عبدالله المالي في مدينة الرياض.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هنا: ما مصدر التمويلات المليارية لهاتين المؤسستين؟ الجواب بسيط، بل أبسط مما نتخيل، فالمصدر هو جيوب الموظفين السعوديين وغير السعوديين العاملين في المملكة العربية السعودية. إذ تستقطع هاتان المؤسستان أرقاماً فلكية من كل الموظفين بشكل شهري، وكأنهما يذكراننا بالتاريخ أيام الانتداب، حيث تذهب هذه المبالغ بالضرورة إلى هذين الصندوقين السياديين ليمسكا بالبورصة من طرفيها كي لا تنهار أحياناً، وهذا دليل قوتهما المالية، إلا أنهما في المقابل لا يقدمان للمواطن شيئاً.
فالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية تشترط على العامل أو الموظف ألا يستفيد مما دفعه لها إلا بعد أن يموت أو يتقاعد حين يبلغ من الكبر عتياً، أو بمعنى آخر: تشترط أن يغذيها الموظف/ العامل بجزء من ماله شهرياً وكأنها أولاده.. وفي النهاية تصيبه بالعقوق!
في المقابل تمنع المؤسسة العامة للتقاعد على الموظفين الحكوميين التقاعد المبكر إلا بعد خدمة فيها لا تقل عن عشرين سنة، لا سيما أن غالبية الموظفين يصلون إلى سنّ التقاعد بعد ما يقارب 30 عاماً، لكنها توافق على مضض أحياناً أن يتقاعد الموظف بعد أن يصاب بمرض يقعده تماماً عن العمل كالجنون مثلاً!
اتفق هذان الهاموران على شفط ما في جعبة الموظفين والعمال من خلال نظام سمياه نظام تبادل المنافع، حقيقته العميقة أنه لتبادل المنافع بينهما ليس إلا!
ويبدو أن مؤسستي التقاعد والتأمينات تفركان أيديهما- وسط سيلان الكثير من اللعاب النظامي- استعداداً لـشفط المزيد من الأموال من خلال رفع سن التقاعد، وذلك عبر مجلس الشورى الذي جعل نفسه الأداة التشريعية لعملية الشفط هذه، وكان الأولى به اقتراح تخفيض سن التقاعد إلى 10 سنوات لمن يرغب؛ فالحياة ولاّدة ولن تدوم لأحد.
ربما كانت أنظمة التقاعد والتأمينات الموغلة في (البراجماتية) من هذه الناحية أحد أسباب ودوافع انتشار الفساد المالي والرشاوى والطرق الملتوية لنهب المال العام.. حيث لا يريد مواطن ما انتظار الستين من عمره كي يحصل على المال وهو لا ينحشر كل يوم في عجلة العمل الطاحنة.
لم أسمع ولم أقرأ ولم أرَ يوماً أن مؤسستي التقاعد والتأمينات قد أسهمتا في رصف شارع أو إنارة حي، فالمسؤولية المجتمعية منزوعة من قاموسيهما على ما يبدو، وإن كانتا تدفعان رواتب المتقاعدين ومدد الاشتراك!
حين يرى الكادحون أموالهم في المؤشر أحياناً، وفي الأبنية العملاقة أحياناً فإنهم لا يملكون إلا الترحّم على تلك الأموال التي جعلتها (الأنظمة) لقمة سائغة في سوى أفواه مستحقيها!
يجب أن تكفّر هاتان المؤسستان عن أكثر من نصف قرن من الزمان التهمتا فيه الكثير من الأموال، ولم تمنحا المواطن سوى الانتظار وخريف العمر!
يكفل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حقوقاً وكرامة للإنسان في العمل، ولذلك يجب أن تستمر هذه الكرامة حتى بعد التوقف عن العمل، يجب ألا يشعر المواطن أنه مستلب من قبل أي من مؤسسات الدولة، فهذه المؤسسات بأنظمتها الحالية تنظر للموظف والعامل على أساس أنه صيد ثمين وسهل، وإن استمرت أنظمتها على هذا المنوال فإنه يخشى من (التغول المؤسساتي) الذي قد يصيبنا بالتصحر، وعلينا مقابل ذلك بأن ننظر لأنظمة بعض الدول الأخرى، كالدول الإسكندنافية التي رعت الإنسانية ولم توغل في براجمتيتها.