نريد لقطر أن تتحرك بحريتها تحت أشعة الشمس، وألا تقرر في الخفاء خلاف ما تظهره، وأن تعود للانسجام مع بقية منظومة الأشقاء الخليجيين، وأن تخفض سقف تطلعاتها وطموحاتها بما يتوازى مع دورها المنطقي والمفترض

الذين هم من جيلي ويشاطرونني العمر المتقارب يتذكرون قبل سنوات مضت كيف كان بعض مواطني إحدى دول الجوار الشقيقة يناكفون جارتهم الكبرى، ويتذكرون كيف كان أهل تلك الديرة تتلبسهم حالة من الفوقية التي كان يبررها ربما الحراك الثقافي بتنوع أطيافه الذي كان سائداً عندهم، وكذلك الحال مع الحركة المسرحية التي كانت مصنعاً لتخريج أجيال من المبدعين في الدراما الخليجية، كما كانت النهضة الصحفية فارقة في هامشها التعبيري ومستوى إخراجها وتبويبها.
لكن هذا التميز النوعي لم يكن ليغير من الواقع الجغرافي المحدود مساحة وسكاناً على نحو يحد كثيراً من الطموحات التي تفوق المقدرة وبشكل يؤطر الطاقات، بحسب المتاح الذي تسمح به المعطيات الحقيقية على الأرض.
مرت السنوات وبعض مواطني هذه الدولة ينحازون في ميولهم إلى عرب الشمال ممن أخذوا نصيباً من المدنية والعصرنة، على عكس أكثر دول الخليج التي كانت للتو تتحسس خطواتها في سلم التطور والنماء.
ورغم هذا الأيقو المرتفع عند إخواننا هناك، وعلى الرغم من النظرة القاصرة من مواطني هذه الدولة تجاه الأشقاء، إلا أن الأزمات هي التي تمحص الجدارة.. وتظهر المواقف المترفعة عن الضغينة، وهكذا كان الأخ الأكبر على قدر من المسؤولية والأخوة الحقة، مما كان له الفضل في إنقاذهم من أخطر الأزمات التي مرت بهم وورثت في نفوسهم حالة من الانكفاء وإعادة الحسابات في تقييم الـمع والـضد.
هذا الاستذكار يعيدني إلى الحديث عن الشقيقة قطر التي تسارعت خطواتها التنموية بصورة لافتة، سعياً منها للحاق بركب التمدن والتطور الذي تشهده معظم دول مجلس التعاون الخليجي، والواقع أن قطر قد سجلت لنفسها حضوراً إقليمياً ودولياً عبر كثير من الاستثمار والحضور الواضح في المجال الإعلامي عبر قناة الجزيرة التي صارت أيقونة للنجاح والانتشار، كما هو الحال مع البذل والتخطيط المدروس الذي حقق لقطر سبقاً رياضياً بارزاً يفوق حجمها، وجاء ذلك تدرجاً من خلال رئاسة الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، ثم الفوز بتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 وكان يصحب هذا الحضور الكروي سعي لافت لحصد الميداليات في مسابقات الجري الطـويل، من خلال تجنيس المتميزين من الأفارقة في هذه الرياضة تحديداً.
ورغم كل التحفظ الذي نستشعره كمشاهدين على هذا الأسلوب المادي والمباشر في حصد المكاسب إلا أن المهم في الاستراتيجية القطرية هو الحضور في المحافل الدولية. ولم تكتف الشقيقة قطر بهذا الدور الإعلامي والكروي، بل سجلت لنفسها حضوراً سياسياً ملموساً في كثير من الصفقات والتحالفات وشراء الولاءات في العديد من القضايا الإقليمية، والعربية والإسلامية، وكانت توظف إمكاناتها المالية بشكل مسرف لحفر البصمة القطرية في كل الاتجاهات.
لكن مشكلة قطر أن هذا الدور المتعاظم الذي تلعبه في المجال السياسي من خلال الاستقطابات والتجاذبات التي تشترى بالعملات الصعبة قد أسكرها بنشوة الانتصار، وقد أدارت خمرة الحضور القطري العارم في عديد المجالات رأس القرار، مما أفقدها بوصلة الاتجاهات الحقيقية، وهكذا نسيت قطر حجمها الحقيقي وصارت تتطلع إلى أن تلعب دوراً أكثر وأكبر بما لا ينسجم مع منطق الجغرافيا الطبيعية مساحة وسكاناً.
أنا لا أشمت هنا بقطر العزيزة وأهلها وأصلها وفصلها على نفسي، ولكنني من باب العشم الذي تقتضيه أخوة اللحم والدم والمصاهرة والجوار وكل المشترك الذي ينتظم بيننا – دول وشعوب المجلس – في اللغة والعادات والتقاليد والتماثل الذي يتطابق في كل عناصر الوجود الواحد.
لا نريد لقطر الشقيقة أن تصغر، فكل إنجازاتها الظاهرة مفخرة لشعوب المنطقة، ولا نريد لقطر العزيزة أن تترك دورها الإعلامي والرياضي والسياسي، لكننا لا نريدها أن تمد خطواتها أبعد وأكبر من محيطها الجغرافي.
لا نريد لقطر أن تغرد بعيداً خارج السرب، ونقدر أن من حقها التغريد والتحليق، لكن بما لا يقلق أشقاءها في الجوار.
نريد لقطر أن تتحرك بحريتها تحت أشعة الشمس، وأن لا تقرر في الخفاء خلاف ما تظهره، وأن على قطر أن تعود للانسجام مع بقية منظومة الأشقاء الخليجيين، وأن تخفض سقف تطلعاتها وطموحاتها بما يتوازى مع دورها المنطقي والمفترض.
أخيراً، نريد من شقيقتنا قطر أن تدرك أن الذين يكيدون لشقيقتها الكبرى وللبقية منهن هم الذين يصفقون ويسعدون كلما تنامى الخلاف وتعزز التنافر.
جميعنا في دول المجلس نعرف مكمن الخطر ومصدر النزاع، ونخشى أن تأتي قطر منقادة إلى إخوانها بعد أن تقع الفأس في الرأس.
ولهذا نقولها صادقة.. نابعة من قلوبنا: يا أهلنا في قطر.. نرجوكم لنحذر الخطر.