الصراع الذي تشهده تركيا حاليا ليس وليد اليوم، بل هو نتاج تراكمات طويلة بدأت منذ سنين في وقوف الرجلين كولان وإردوغان على مفترق طرق في اتخاذ مواقف حاسمة من ملفات داخل وخارج تركيا؛ التي رأى فيها كولان تهديدا مباشرا لمصالحه وللأفكار التي تبناها وعمل عليها طيلة السنين الماضية في طموحه للهيمنة على تركيا، ليس باستلام السلطة فيها وإنما باستخدام الأموال واستمالة المواقف لتوجيه القرار السياسي التركي من خلف الكواليس.
لقد بدا الشرخ بين إردوغان وكولان قبل الثورات العربية وقبل أزمة سفينة مرمرة مع إسرائيل، إلا أن الموضوعين كانا كفيلين بكشف الخلاف الكبير في تعاطي الرجلين مع الأزمات الخارجية، فموقف كولان كان يتعارض تماما مع موقف إردوغان في الأزمة مع إسرائيل، وتبنى دائما فكرة عدم التصادم مع حليفة أميركا في المنطقة، التي يراها قدرا إلهيا لدول هذه المنطقة، ويجب التعامل معها بانفتاح دون مشاكل.
أما الثورات العربية وموقف إردوغان منها فقد كشفت لـكولان أن هناك ثمة سياسي في أنقرة على وشك الخروج من سيطرة جماعته، والتحول إلى زعيم إقليمي مما يضعف من دور الجماعة في القرار السياسي التركي.
قد يجهل الكثيرون في العالم العربي والإسلامي ما تمثله جماعة كولان حركة الخدمة في تركيا من الناحية السياسية والاقتصادية إضافة إلى الناحية الدينية.. فالرجل برز كأحد النوريين أو النورانيين أتباع سعيد النورسي، وانشق عنهم ليكوّن له جماعة لها أفكار تقترب كثيرا من النظرة النازية فيما يختص بالعرق، لكنها مغلفة بنطاق ديني، فهو يرى أن العرق التركي قادر على تقديم الفكر الإسلامي بشكل أكثر رقيا وانفتاحا مما تقدمه الأحزاب الإسلامية العربية، وأن العنصر التركي قد فهم الإسلام وقدم له أكثر مما قدم له العرب.
واستفاد الرجل من التغيرات السياسية بعد انقلاب 1980، وقدم نفسه كوجه إسلامي معتدل استغلته الأحزاب العلمانية التركية لتظهره كبديل مناسب للأحزاب الإسلامية الأخرى، خاصة وأنهم ـ حسب ادعاءات الجماعة ـ لا يتدخلون في السياسة ولا يطمحون إلى السلطة، شأنهم في ذلك شأن بقية الحركات الصوفية في العالم، وهكذا نجحوا في طمأنة الحكومات التركية المتعاقبة، والانتشار والتوسع في بناء إمبراطورية اقتصادية لا يستهان بها، تمثلت في أموال ضخت للأعمال الخيرية، ولفتح مدارس خاصة بالجماعة داخل تركيا وخارجها، ودس الكثير من عناصرها في أماكن حساسة للدولة، حتى قبل وصول إردوغان إلى الحكم.
لقد كان لتغير الموقف الأميركي من تداعيات الثورة في سورية، وسقوط حكم الإخوان في مصر دافعين لإعلان كولان الحرب على إردوغان، خصوصا بعد قرار حصر المدارس التابعة للجماعة داخل تركيا، وسواء كان البدء بهذا الصراع بتوجيهات أميركية وإسرائيلية لـتأديب إردوغان أم كانت ضربة معلم من كولان نفسه، إلا أن حيادية الموقف الأميركي من الأزمة الحالية تثير أكثر من تساؤل، فبدء الصراع في موقف الجماعة من أزمة ساحة تقسيم في السنة الماضية، وكذلك إقالة مدير الاستخبارات التركي المقرب من إردوغان، والمسؤول المباشر عن ملف المفاوضات بين حزب التنمية والعدالة الممثل للحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني.
ما يحدث في تركيا لن تكون تبعاته محصورة في الداخل التركي، بل ستتعداه إلى الخارج التركي، فيما إذا خسر إردوغان هذه الجولة، واستطاع كولان التحالف مع الأحزاب القومية واليسارية التركية، والفوز في الانتخابات القادمة، فحركة الخدمة وهي اسم جماعة كولان لها تجارب سابقة في التحالف مع الأحزاب العلمانية قومية كانت أم يسارية، وهي تتحرك حسب مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وإذا ما حصل هكذا تحالف، فهذا يعني تحالف القوى القومية التركية التي تميل توجهاتها نحو الغرب وأميركا وإسرائيل، وتتبنى موقفا حياديا في الصراع السياسي بين إيران والدول العربية مع جماعة إسلامية كجماعة كولان، التي لها علاقات ممتازة مع أميركا وإسرائيل، وتمتلك نظرة قومية ذات صبغة دينية أخطر على الدول العربية من التوجهات المذهبية لإيران.
ولكن يبدو أن الدول العربية لا تمتلك بادرة في الفعل بقدر ما تركز على ردود الأفعال بعد حدوث الحدث، فقسم من الدول العربية التي تتعارض مع توجهات إردوغان مستبشرة بما يحدث في تركيا، والقسم الآخر يتفرج بصمت حيال ما يحدث دون استعمال أي ضغوط سياسية على الجهات الداعمة لكولان في الغرب وأميركا. قد يكون التوجه العربي حيال الأزمة التركية توجها صحيحا آنيا، ولكن على المدى البعيد فسيكون إسقاط إردوغان وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء في تركيا بالنسبة للدول العربية كمن يستجير من الرمضاء بالنار.