المُنتج العربي بحاجة إلى مظلة السياسي وتكتلاته الاقتصادية والإعلامية، بحاجة إلى مباركته لمضمون العمل، بحاجة إلى أن تقبل أقنيته شراء المسلسل بحاجة لإذنه حتى من أجل تصوير مشهدٍ في الشارع
لاحِظ أن الموضوع الرئيسي لموجة الدراما الرمضانية يتغير كل بضعة أعوام. مع بداية الألفية الجديدة وأحداثها، طغت الموجة الاستعاديّة للماضي العربي ـ الإسلامي. قبلها ـ في التسعينيات ـ كانت حقبة مسلسلات القبائل الخيالية التي تعيش في اللامكان واللازمان (وتستخدم قماش الشيفون الأخضر بكثرة!). هذه الأعوام الأخيرة هي أعوام النقد الاجتماعي. المسلسلات مشغولة جداً بنقد الظواهر الاجتماعية. التكرار الواسع لموضوعات مثل الزواج والطلاق والتقاليد والمفاهيم الاجتماعية؛ هو أحد المؤشرات الدالة على طغيان الموضوع الاجتماعي على صناعة المادّة التلفزيونية. حساسية المجتمعات العربية للنقد تحصر الموضوعات المتاحة تحت سقف منخفض، لكنها توفر في ذات الوقت فرصة سهلة للنجاح ـ إذا اعتبرنا أن النجاح تلفزيونياً هو ارتفاع نسبة المتابعة ـ لكل من يحتكّ بهذا السقف، حتى في عملٍ ضعيفٍ فنياً وخالٍ من المتعة. على أية حال لا يلزم المادة التلفزيونية أن تكون (فناً) وأن تكون (مُمتعة) لكي تكون مُستفزة، وذهنية المشاهد العربي لا تحتاج لأكثر من الاستفزاز لتقع في فخّ المتابعة وبالتالي إنجاح العمل بالمقاييس التلفزيونية. لو لم يكن الأمر هكذا لما كانت الشاشات غارقة في بحر الرداءة الفنية اللانهائية التي تجد من يتابعها ويمولها. أكثر الحلقات أو المسلسلات نجاحاً هو أكثرها توغلاً في التسطيح والصدمة الاجتماعية. ثقافة المشاهدة الآن صارت مِجهريّة تبحث في حدود المشهد الواحد، من الرائج الآن أن يبحث المشاهد على الإنترنت عن اللقطة أو المشهد الأكثر صدماً أو استفزازاً من مسلسل اجتماعيّ بطول 30 ساعة. حوار (ناصر القصبي) في صحيفة الرياض الأسبوع الماضي ذو دلالة في هذه الناحية، وهوَ يوضح الطريقة التي يفكر بها مُنتج العمل التلفزيوني الناقد للمجتمع. تحدّث مُعترفاً بأنه غير معنيّ بخلق شخصيات جديدة، ولا بمعالجة الأفكار بعمق، ولا إدهاش المشاهِد؛ وأن الإيقاع استهلاكيّ وسريع، والهدف هو أن يتسمر المشاهد أمام الشاشة ولا يذهب إلى محطة أخرى، والرهان موضوعٌ على الفكرة وحدها لتحقق ذلك. فكرة غير عميقة، ولا مُدهشة، لكنها مُستفزة، فقط.
من اللافت ملاحظة شكل المجتمع والقضية الاجتماعية في الدراما العربية. فالمجتمعات تبدو كأنها تعيش في فراغٍ مكانيّ، في منتصف المحيط الهادئ، حيث لا وجود أبداً لأيّ كيانٍ سياسيّ ولا حكومة ولا ساسة. والمشكلة الاجتماعية تبدو مُفرطة في اجتماعيتها ولا يتحمّل السياسيّ أية مسؤولية عنها. الفقير فقير لأن الله أراد ذلك لا لأن هناك غياباً للعدالة الاجتماعية. المرتشي مُرتشٍ لأنهُ فاسد خلقة لا لأن الفساد متفشٍ. من النادر أن تُشير شخصيات العمل في حواراتها إلى الوضع السياسي مهما كان حاضراً في حوارات الواقع، في المقابل من المألوف أن ينخرط المسلسل العربي في تمجيد السياسي وتنزيهه عن كل ما يجري في المجتمع الذي يحكمه. هذه الملاحظة تستكمل الصورة. المُنتج العربي بحاجة إلى مظلة السياسي وتكتلاته الاقتصادية والإعلامية، بحاجة إلى مباركته لمضمون العمل، بحاجة إلى أن تقبل أقنيته شراء المسلسل، بحاجة لإذنه حتى من أجل تصوير مشهدٍ في الشارع. وهكذا تفارق المسلسلات العربية الواقع الاجتماعي الذي تزعم أنها تعرضه، ولو حاول المنتج أن يعرض الواقع الاجتماعي فعلاً فلن يجد مكاناً يعرض فيه عمله سوى منتصف المحيط الهادئ. أشار (القصبي) أيضاً في حواره إلى أن المؤسسات الحكومية التي كانت مفتوحة أمامه للتصوير قبل سنوات أصبحت مغلقة الآن في وجهه، وفي تعبير ذي دلالة وصف طاش بأنه قد (كان) الابن المدلل يوماً ما، لكنه لم يعد كذلك. 17 عاماً من الإنتاج التلفزيوني المتواصل تصلح مادّة لرصد أشياء كثيرة، من بينها تحولات ما يُمكن قوله إعلامياً وما يُرادُ لهُ عنوة أن يُقال بكيفية معيّنة، وما أصبح ممنوعاً بعد ذلك. والمشكلة هيَ أن الإنتاج التلفزيوني أصبح موسماً تجارياً سنوياً لا يختلف عن أي تجارة موسمية أخرى، مثل إنتاج (ال?يمتو)، ويجب أن يستمر خط الإنتاج في العمل والمُستهلِك في الاستهلاك والأرباح في تغذية المنتج والعاملين. لا يعود النقد الاجتماعي في ظل هذه الأشراط كلها ـ كما وردت منذ بداية المقالة حتى هنا ـ عملاً نبيلاً ولا (تنويرياً)، بل (بزنس) بحت. ولا يعود خادماً للوعي الاجتماعي بل مُستخدماً له. لا بأس فمعظم الموادّ الإعلامية العربية هذه طبيعتها، بما في ذلك كتابة المقالات، فقط على المنتج والممثل العربي ألا يوهم نفسه في مرحلة (النقد الاجتماعي) هذه أن المجتمعات مدينة له بشيء ما، لأنه هوَ المدين في الواقع.. الذي لا يستطيع تقديمه.