النقد ليس إلا وسيلة للارتقاء، وتسليط الضوء على الأخطاء لا يعني خلو الأمر من المحاسن. تحدث وصرِّح وخاطب كما تشاء، لكن عليك بالحقيقة كما هي حتى وإن كانت مُرة ولا يُستساغ لها طعم، قلها واعرضها بلا رتوش

جميل أن يحيط المسؤول نفسه بطاقم مختص بالتصحيح والتدقيق الإملائي واللغوي، طاقم معني بانتقاء العبارات التي توصل المعنى بكل بساطة ووضوح ودِقة وجمال، فمن المفترض بالخطاب والتصريح المقروء أو المسموع الذي يخرج باسم المسؤول ليوجه إلى العامة أن يكون خالياً من الأخطاء الإملائية والنحوية، وأن يكون واضحاً بسيطاً غير مبهم، مُقيداً بمعايير الخطابات والتصريحات الرسمية من بسملة وتحية وسلام، أن توضع النقطة والفاصلة في الأماكن المحددة لها، وأن يرفع المُتحدِث صوته في الوقت المحدد ويخفضه حتى لا ينزعج السامعون ويصمت للاستماع، وأن تأتي عبارة أما بعد بعد السلام وليس قبلها، وأن يتم التفريق بين الضاد والظاء.
كل هذا جميل ومطلوب ويجب الالتزام به، لكن ماذا عن المضمون؟ فالمضمون حين يكون ضعيفا أو غير واقعي أو لتمويه على حقيقة مُشاهدة، فلن تحجبه جمالية الخطاب ولا روعة إلقاء التصريح وكل هذه الزخرفة الكتابية والكلامية. ماذا عن المضمون؟، في رأيي أن الناس قد تغض الطرف عن الأخطاء الإملائية والنحوية في حال كان المضمون يمس واقعهم ويحاكي تطلعاتهم، لن يدقق الناس في كون الهمزة خارج السطر أو تحته أو لم يُنطَق بها من الأساس، لن يتساءلوا: هل جاء حرف العطف عطف نسق أم بيان!، وأنا هنا أتحدث بلسان المواطن البسيط، هذا المواطن لا يريد أن يفتح فمه إعجاباً بقدر ما يريد أن يقول للمُخاطِب: صدقت.
وأنا على ثِقة بأن هذا النوع من الخطابات والتصريحات التي تُطِل علينا بين الفينة والأخرى هي حالات شاذة بالمقارنة مع هذا الكم من الخطابات والتصريحات، التي تخرج علينا من المسؤولين كل عام، إلا أن لهذه الحالات الشاذة القابلية الأكبر لخطف الأنظار، لبعدها عن الواقعية أحياناً وعدم موضوعيتها أحيانا أخرى.
حين يستمع الناس أو يقرؤون تصاريح وخطابات صادرة من بعض المسؤولين ثم يكتشفون أنها بعيدة تماماً عن واقعهم ولا تمس همومهم وتطلعاتهم، سيتبادر إلى الأذهان فوراً بأن مُصدِّر هذا الخطاب أو مُلقي ذلك التصريح المسؤول إما أنه إنسان مُنفصِل عن الواقع أو أنه يريد التمويه على الواقع، وفي الحالتين سيتساءل القارئ أو المستمع: هذا وين عايش؟
حين يخرج مسؤول ليُخبِر الناس فرِحاً مُستبشراً بأن قطارات السعودية أقل القطارات حوداث وأعطالا، هذا وين عايش؟. أو يخرج مسؤول ليُصرِح بأن الرياض تُعاني من شُح في الأراضي، هذا وين عايش؟ وكأنه يقول: ليس في البحر ماء!. حين يُصدِر مسؤول تصريحا فيه أن قطار المشاعر يعد أفضل قطار في العالم، هذا وين عايش؟. حين يُعلِل مسؤول بأن أزمة المياه في جدة نفسية، هذا وين عايش؟. حين يخرج مسؤول ليُصرِح بأن طُرقنا تتمتع بمواصفات عالمية، هذا وين عايش؟. حين يخرج تصريح بعدم وجود بطالة في السعودية، فصاحب هذا التصريح وين عايش؟.
واضح أن الخلل في التصريحات والخطابات الصادرة من بعض المسؤولين ليس إملائياً أو نحوياً، ليس في أدوات النصب أو في حروف العِلة، إنه خلل في المنطق والحس بالواقع، خلل في كونها غير موضوعية أحياناً وخيالية أحياناً وأفلاطونية في كثير من الأحيان، فإن كانوا لا يعلمون عن هذا الخلل فتلك مصيبة، وإن كانوا يعلمون عنه فالمصيبة أعظم، وإن لم يكن من بين طاقم التدقيق الإملائي واللغوي مُدقِق منطقي واقعي فليتم استحداث وظيفة له، والأفضل أن يُعيّن على هذه الوظيفة مواطن من الناس اللي تحت ليسحب المسؤول من برجه العاجي إلى أرض الواقع.
الشيء الآخر والمُلاحظ في الخطابات والتصريحات الواقعية فعلاً، أنه ورغم واقعيتها إلا أنها تحتوي على الكثير جداً من المبالغة، وكأن المسؤول مُتحدِّثاً أو مُخاطِباً يسعد حين يُبالِغ في الوصف، كأن يقول: لقد نفذنا أكبر مشروع على مستوى الشرق الأوسط، رغم أن مشروعه ليس أكثر من متنزه. أو يقول: إننا نمتلك أكبر مطار في العالم رغم أن 90% من مساحة المطار أراضٍ خالية. هذا النوع من المُبالغة بأن لدينا أكبر وأعمق وأضخم وأطول وأوسع وأعلى وأعظم وأفضل وأفخم وأجمل، كل هذه المُبالغة ستنزع الواقعية عن الخِطاب أو التصريح الواقعي فعلاً.
يا سعادة المسؤول المحترم، تحية طيبة وبعد، إنما النقد ليس إلا وسيلة للارتقاء، وتسليط الضوء على الأخطاء لا يعني خلو الأمر من المحاسن. تحدث وصرِّح وخاطب كما تشاء، لكن عليك بالحقيقة كما هي حتى وإن كانت مُرة ولا يُستساغ لها طعم، قلها واعرضها بلا رتوش أو تجميل أو مبالغة في الوصف، ثم اعرض حلك ورؤيتك لهذا الواقع، وإلا سيتوهم الناس بأنك تعيش في عالمين، عالم واقعي معاش لا تتحدث عنه رغم أنك تعيشه كل يوم، وعالم خيالي أفلاطوني لا أحد يعيش فيه حتى أنت مع هذا دائماً تتحدث عنه!.
وختاماً.. وجهة نظري أن هذه التصريحات وتلك الخطابات ليست إلا حالات شاذة وأن القاعدة مُتزِنة متوافقة مع الواقع إلى حد كبير، لكن يجب أن نتذكر دائماً بأن الحالات الشاذة التي تخرج عن النسق تشرئب لها الأعناق.