الجهيمانيون الجدد هم وقود خصب يشعل ما حوله، وعلى الدولة أن تقف على الحياد من هؤلاء الجهيمانيين، وتترك المهمة للشعب في صناعة مناعته الخاصة، ليقوم المجتمع بدوره ويطرد عن جسده (التقوى الكاذبة)
حدث 11 سبتمبر ووصلتنا وعثاء الحادثة باعتداءات في بلدنا وقتل في رجال أمننا، جعلت الملك عبدالله يعد بمحاربة الإرهاب (عشر.. عشرين.. ثلاثين سنة... لازم ينتهي بإذن الله)، والمراقب الفطن يكتشف أن كثيراً من الوعاظ (الدكاترة) لم يتبرؤوا من أسامة بن لادن بشكل صريح ويستنكروا ما فعله إلا بعد مضي أكثر من ست سنوات على حادثة سبتمبر، وبعضهم فشل في البراءة والاستنكار حتى الآن، المخيف في الموضوع اكتشافنا المتأخر أن الإرهاب يحتاج إلى علاج كيماوي قد يضر عموم الجسد بسبب إهمالنا الطويل وتساهلنا في الورم الحميد الذي تحول مع تقادم الزمن إلى ورم سرطاني، ليصل الأمر في هذه الخلايا الخبيثة أن تريد المساس الشخصي بمساعد وزير الداخلية آنذاك صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وما زالت الحرب قائمة على الإرهاب والتطرف على المستوى الأمني بالمعنى البوليسي، أمَّا اقتلاعه فكرياً ومن الجذور فبيد وزارة التربية والتعليم، حيث الحاضنة الأولى لعقول أبنائنا، ويبقى على الوزارات ذات الشأن الديني الحفاظ على حياديتها وتنزيه نفسها عن من يجعلها طرفاً في صراع أيديولوجي، فأجهزة الدولة ليست أداة للمغالبات الفكرية بيد التيارات الاجتماعية، بل يجب أن تتناغم في هدف واحد يجعل موظف الشؤون الإسلامية بكل قطاعاتها من هيئة الأمر بالمعروف إلى الأوقاف يرى نفسه في تمثيل بلده داخلياً على قدم المساواة وعلى المستوى نفسه من الوعي والإدراك وبعد النظر الموجود لدى موظف الدبلوماسية في وزارة الخارجية والعكس، فكلاهما في خدمة دينهم ومليكهم ووطنهم، فكما أن موظف الخارجية يتعامل مع مواطني بلده لرعاية حقوقهم ومع دول العالم بأناقة ودبلوماسية تعكس رقي بلده، فإن موظف الشؤون الإسلامية في هذا البلد يدرك أنه في مهبط الوحي وقبلة كل المسلمين من مختلف دول العالم على اختلاف مذاهبهم، وعلى هذا يكون تعامله كصاحب مراسيم داخليه لمواطنين وأجانب مقيمين وزوار، بدلاً من إحراج الدولة في صراعات شخصية لمفاهيمه الدينية الخاصة الضيقة التي يريد أطر الناس عليها، والتي لا تتقاطع بالضرورة مع مليار مسلم من أقصى روسيا والصين إلى أقصى أميركا، عدا أن تتقاطع مع التنوع المذهبي في هذا الكيان الشاسع المملكة العربية السعودية، والفيصل في ذلك الأنظمة والتعليمات التي يلتزم بها أي موظف يعي معنى الدولة الحديثة في القرن الحادي والعشرين.
ما زلت أذكر كلمة للشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - عندما ضغط عليه بعض المتحمسين بسؤالهم: لماذا ينكر على بعض طلبة العلم الشرعي انجرافهم يمينا ويساراً ولا ينكر على غيرهم بالشدة نفسها، فقال بما معناه: (المنكرات الظاهرة كالزنا والسرقة لا تحتاج إنكارا، فالناس أسبق لإنكارها وأجهزة الدولة الأمنية تؤدي واجبها، لكن الخوف من المنكر الذي يتزيا بزي الدين وأهل الخير والمعروف، مما يختلط على الناس الأمر فيه فيظنونه خيراً وفي باطنه الشر المستطير).
حادثة جهيمان لم تأت فجأة، كانت لها إرهاصات، يحكيها العوام عن أناس كانوا يقتحمون عليهم مجالسهم ويحدثونهم بقال الله وقال رسوله، فكان منهم من يصلي بنعله وينكر على الناس تركهم لهذه السنة الصريحة الصحيحة، ثم ينكر عليهم انشغالهم باللهو، والناس مستسلمون لخيره الظاهر غافلين عن شر باطنه، ثم يطلب منهم الانضمام إلى سبيل الله، ومن هو الذي لا يريد أن يكون في سبيل الله؟! لينضم إليهم المئات، فنرى الخاتمة احتلالاً للحرم وسفكاً للدماء، في سبيل مهديهم المنتظر الذي مات حتف أنفه.
ونرى المسبحة تكر من جديد لنرى بذور الجهيمانية الجديدة تنبت هنا وهناك، لنرى من يتزيا ثوب الاحتساب فيزايد على أنشطة الدولة ورجالاتها، ويقتحم المنابر مقاطعاً ومشوشاً على الاحتفالات الرسمية بوهم الحق الذي في رأسه فقط، مما يعيد إلى أذهاننا حقيقة معتقدهم في كفر الدولة، وضرورة إعادتها إلى الصراط المستقيم، وذلك من خلال المزايدة عليها في كل شيء، أحدهم قد يقتحم جمعية ثقافة وفنون، وهو يعلم أن هناك حفلاً فنياً فما الذي جعله يحضر ما دام يعتقد حرمة الموسيقى وله حق الأخذ بذلك الرأي الفقهي، الذي يعنيه فقط دون المزايدة على فقه الناس ودينها في الأخذ بآراء أخرى؟!، طبعاً ما أحضره هو أنه سليل مخلص لأولئك الذين حاولوا اقتحام مبنى الإذاعة والتلفزيون إبان فترة الشهيد الملك فيصل، وهو يفعل ما يراه في استطاعته، آملاً في مستقبل يسعفه ليكون إرهاصاً لمن وراءه ممن يقتحم ما هو أبعد من جمعية ثقافة وفنون، أو أبعد من إحراق نادٍ أدبي في شمال المملكة.
الجهيمانيون الجدد هم وقود خصب يشعل ما حوله، وعلى الدولة أن تقف على الحياد من هؤلاء الجهيمانيين، وتترك المهمة للشعب أولاً في صناعة مناعته الخاصة، وتعمل فقط على المساعدة هنا وهناك ليقوم المجتمع بدوره ليطرد عن جسده (التقوى الكاذبة)، التي وصلت إلى حد المزايدة على أعراض الناس في بيوتهم، فيأتيك من يقول لك: أترضى لابنتك أن تكون طبيبة تختلط بالرجال؟ فترد عليه: ومن أنت لتتدخل في مستقبل ابنتي الدراسي لتمنعها من الكلية التي تريدها بجهدها وذكائها الذي فاق ذكاءك إذ لم تستطع بمعدلك المتواضع سوى الكلية التي خرجت منها تحمل فهمك السقيم للدين، فكيف يزايد هؤلاء على عفة أهلنا بأوهام الزنا التي يمضغونها ليجرحوا بها قلوب الحرائر عن مستقبل مشرق ينتظرهن في كل مجالات الحياة مما يعجز عنه هؤلاء الموسوسون البلداء.
هل تذكرون التحذير من الدش؟ هل نسيتم أولئك القناصين على أسطح المنازل بالبنادق الهوائية، ليحشروا أنفسهم فيتصيدوا كل طبق فضائي فيكسروه محتسبين الأجر من عند أنفسهم، مقتحمين على الناس خصائص بيوتها... كيف انتهوا؟ لقد انتهوا عندما غلبت إرادة الناس إرادة الجهيمانيين الصغار، فراحوا يبحثون لأنفسهم عن ميادين أخرى يستطيعون من خلالها تجييش الغوغاء، ضد حكومتهم وضد شعبهم، أما كبراؤهم فقد أصبحوا من سدنة البرامج الفضائية بعد أن كانوا يحرمونها ما داموا يجدون عند الناس أذناً صاغية، هل نعيد التذكير بمن يلقنوا أتباعهم الصغار مفاصلة والديهم على حرمة التلفاز في المنزل، ثم الاختفاء فجأة ليكونوا قرباناً في ساحات الموت المجاني بدعوى (الجهاد الأفغاني آنذاك).
من حق السياسي صيانة الدولة أن تكون طرفاً في نزاع ديني أيديولوجي بين مواطنيها، بل واجب عليها الحياد، فالدولة ليست تابعة لطائفة دون أخرى، وإلا تحولت إلى صانعة للصراع الطائفي وهي لا تعلم، وهذا ما رأيناه في انفصال السودان بين مسيحيين في الجنوب ومسلمين في الشمال، والعبرة الكبرى ما نراه في سورية وغيرها، وهذا ما لا ولن تقع فيه الدولة الحكيمة باعتبارها راعية وضامنة للسلم الأهلي، وفرض القانون يكون لحفظ المسافة الآمنة بين التوجهات الاجتماعية المختلفة بين فئات المجتمع، فالحجازي لن يختار ثقافة البادية ومعطياتها خياراً لتفاصيل حياته، والنجدي لن يكون جنوبياً في عاداته، والدولة عليها رعاية هذه التعددية دون أن تتغول ثقافة على أخرى باسم السلطة السياسية، وإلا ستظهر تقرحات اجتماعية يصعب علاجها مع الزمن.
علماً بأن من علامات نضج المجتمع أن يصبح هو الضامن لنفسه، وعلى الدولة أن تتمسك بنصيحة مونتسكيو في روح القوانين عندما قال: (العادات تلقن، ثم تأتي القوانين لتسن)، فمعطيات التنمية مع التشكلات الديموغرافية المعقدة والقادمة بتعقيدات أكبر لهذا البلد مما لا يستوعبه واعظ مخلص عدا أن يستوعبه جهيماني معتوه، تستلزم ظروفاً ومعطيات جديدة تجعلنا نتواضع ونتلمس خطى قيادتنا فيما تريد الإشارة به إلينا من عادات أرفع وأسمى تتوافق وطموح كل الأمم في الازدهار والرقي، وستأتي القوانين تِبَاعَاً لِتُسَن... ثقوا بذلك، ولكنكم قوم تستعجلون، وبينكم سمَّاعون لهم، والله ولي السرائر.