ليس مجرد حمل الإنسان لفكرة تخالف السائد، أو اعتقاده بأمر لا يتوافق مع اعتقاد الجماعة العامة يبيح للناس إهدار كرامته أو ظلمه حتى لو كان قوله فيه مخالفات شرعية أو عقدية

لا أظن أحداً يخالف في ضرورة حفظ أمننا واستقرارنا، وبذل كل الإجراءات التي من شأنها قطع الطريق على كل من تسول له نفسه العبث بأمن هذه البلاد أو إشاعة الفتن والخوف، فالأمن مطلب ضروري وعام وخط أحمر لا يمكن لأحد أن يقترب منه أو يتعدى عليه.
لقد كان القرار الملكي الكريم المتعلق بشأن الجماعات الإرهابية وسيلة من وسائل حفظ الأمن ومواجهة الخطط التي تراد بهذا البلد، وهي إجراءات ضرورية ووقائية في نفس الوقت، وخاصة في ظل المتغيرات الكبرى التي تشهدها منطقتنا العربية وحالة التثوير الكبيرة التي تواجهها شعوب المنطقة والتي لم تكسب منها إلى الآن إلا مزيداً من الشدائد والخوف والقتل والتدمير واضطراب الأمن والقلق المجتمعي وحضور شبح التقسيم والاحتراب الداخلي وعودة الاستعمار بصوره الصريحة والخفية بعد هذه الفوضى التي جرت منذ عام 2011 وحتى هذه اللحظة التي نعايشها وندرك تفاصيلها.
إلا أن مثل هذه القرارات لا بد أن نكون حذرين في طريقة تعاطي الناس معها، فإن البعض يستغل الفرصة بمثل هذه القرارات ليجعلها وسيلة إلى تصفية خصوماته مع غيره من خلال حشره في خانة الإرهاب أو ضمه إلى هذه الجماعات التي ذكرت في القرار، وهذا بلا شك سوف يؤدي إلى وقوع صنوف من التظالم والبغي بين الناس، وخاصة حين لا يكون الإنسان يملك الصفة الشرعية والقانونية لإطلاق الأحكام على المخالفين وتصنيفهم، إذ إن التصنيف هو داء ابتليت به الأمة في عصورها المتأخرة حتى أصبح طريقاً إلى الخصام والشقاق، فكل أمة تضفي على نفسها هالات القداسة والتعظيم، وتحصين النفس بالتزكية المطلقة، ومن ثم رمي المخالفين بأبشع الأوصاف تنفيراً للناس منهم أو إيقاع العقوبة عليهم، أو محاولة الإضرار بهم في أعمالهم ومناصبهم، وشن الحروب والغارات عليهم اتكاء على مثل هذه القرارات التي تهدف إلى حماية الأمن والسلم الاجتماعي وليس إلى مزيد من التشرذم والتشتت والعداء والخصام الذي يؤثر في عوامل اللحمة الوطنية.
إنني على يقين أنه يوجد بيننا من هو إرهابي الفكر والسلوك، ومن يحمل فكر التكفير والخروج، ومن هو ناقم على البلد وعنده الاستعداد للتحالف مع الشيطان في سبيل النقمة منه وإحداث الفوضى فيه، ومن هو ينتمي إلى جماعات لا تريد خيراً بهذا البلد، وتحمل أجندات سياسية معارضة واستئصالية، ولكن السؤال: كيف هي المنهجية العلمية والموضوعية التي من خلالها نستطيع أن نصف هؤلاء المنضوين إلى هذه الجماعات؟ وما هو الحد الفاصل بين الفكر والاختلاف المقبول والذي هو داخل في إطار الرأي المعتبر وبين الرأي والعمل والسلوك المتطرف الذي يمكن من خلاله أن نصنف الفرد أو الجماعة من خلاله؟ ومن هو المخول شرعاً ونظاماً لإطلاق الحكم على الأفراد والجماعات بالانتماء من عدمه إلى هذه الجماعات الإرهابية؟ وما هي الأفكار التي إذا تبناها الإنسان يمكن أن نحكم عليه بالانتماء من عدمه؟ إنها أسئلة كبيرة تحتاج إلى مساحات واسعة من الحديث لتقعد فيها القواعد وتؤصل فيها المسائل للوصول إلى رأي سديد نافع يحمي الناس من التظالم، ويجعل خطواتهم مبنية على هدى من العلم والمنهجية والموضوعية حتى لا يستغلها البعض في تمرير أفكاره الخاصة، أو سحق مخالفي أيديولوجيته والضرب بعصا السلطان وترهيبه لمجرد أنه يحمل فكرة لا تروق له.
إن التفريق بين الرأي اللازم الذي هو من قبيل الاجتهاد الفكري والعلمي الخاص، وبين الفكر المتعدي الذي يؤدي إلى القتل والتدمير وإثارة الفتنة ضروري للغاية، فليس مجرد حمل الإنسان لفكرة تخالف السائد، أو اعتقاده بأمر لا يتوافق مع اعتقاد الجماعة العامة يبيح للناس إهدار كرامته أو ظلمه حتى لو كان قوله فيه مخالفات شرعية أو عقدية، فالخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا من أشد أهل الأرض غلواً وتكفيراً ومفاصلة للجماعة المسلمة في زمن الصحابة بذل معهم الصحابة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهجاً اتفق معه جمهور الصحابة عليه، فقد تحيز هؤلاء الخوارج في مكان في حروراء، وكانت عندهم أفكار خطيرة، ومع ذلك قال لهم علي رضي الله عنه بعد أن ناظرهم لكم علينا ثلاثاً: لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً، وحين قتلت الخوارج بعض الصحابة وأحدثت الفساد قاتلهم علي والصحابة وسروا لقتالهم لتنفيذهم أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقتلهم وقتالهم، فلم يكن الفكر هو المبيح للقتال وإنما أباح قتالهم حين قاتلوا وخرجوا على الجماعة بالسيف وأراقوا الدم الحرام.
إن معاملة الناس بناء على ما يظهرون سنة نبوية عظيمة، فمن أبدى لنا خيراً قبلناه، ومن أبدى لنا شراً باعدناه وعاديناه، وهذه هي سنة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، كان يعامل فيها أشر الناس وهم المنافقون الذين يبطنون في دواخلهم العداء لله ولرسوله وللمؤمنين، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام ما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس ولا أن نفتش في ضمائرهم، ولما انقطع الوحي قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس لنا في سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه وإن قال سريرته حسنة رواه البخاري، وهذا هو المنهج الذي لا بد أن نسير عليه في حكمنا على الناس وتصنيفهم، فمحاكمة الضمائر، أو الحكم بناء على موقف قديم منزوع من سياقه، أو خطأ فكري أو منهجي يقع من الإنسان في مرحلة من حياته، أو مخالفة في قضية فكرية أو سياسية ليست هي المسوغ للظلم والتصنيف الجائر، وخاصة إذا أعلن الإنسان ولاءه للبلد ولحكومته، وبراءته من أهل الفساد والإفساد الذين يريدون بالبلد شراً، فإن هذا هو العامل المهم في توحيد الجهود، وتحقيق الأمن، وتقارب وجهات النظر، ومواجهة الخطط حتى لا نترك ما يحاك لنا ونتوجه إلى بعضنا بعضا تكفيراً وتفسيقاً وتبديعاً وتخويناً، وأما الكشف عن الخطط الخفية فهذه هي مهمة رجال الأمن الذين يرصدون ويتحرون ويتابعون أهل الخيانة وقد نجحوا في ذلك وحققوا تفوقاً أبهر الجميع.