لقد أثار هذا الكم الهائل من المدافن 'التلية' في البحرين، التي يقدر عددها بما يتراوح ما بين 100 - 150 ألف تل، اهتمام الباحثين الذين توصلوا إلى نتيجة مهمة مفادها وجود أكبر مقبرة في فترة ما قبل التاريخ
لم يعد يؤرخ لحضارة شبه الجزيرة العربية منذ ما قبل التاريخ، حيث يرجع تاريخها إلى حوالي 5000 عام ق. م. بل امتد إلى ما هو أعمق بكثير؛ فهو أضحى مرتبطا بتجمع شعوب هذه المنطقة وتكوينها في شكل جماعات وقبائل بعد فترات التشتت والانتشار، هذا التجمع الذي يفرز من الاختراعات والنظم ما يحقق لشعب ما سمة الحضارة، على أن حضارات الأمم تكتسب خصائصها ومظاهرها عبر العصور المتعاقبة عليها، فكما يقول الدكتور رالف دانتون فى كتابه شجرة الحضارة وهي دراسة محكمة أجراها في مؤسسة فرانكين:
إن أهم مركز لتدجين النبات واستئناس الحيوان في بلاد العالم القديم هي تلك المنطقة الواقعة في جنوب غرب آسيا، ومن العبث في الوقت الحاضر أن نحاول البحث عن أصل المكان الذي تم فيه تدجين النباتات المختلفة واستئناس بعض حيواناتها على وجه التحديد وكل ما نستطيع أن نقوله هو أنه حوالي عام 5000 ق. م. كانت نظم حياة القرية منتشرة في معظم أرجاء هذه المنطقة وأن قبائل آنذاك متباينة، كانت تشترك في اتباع تقليد واحد، وقد تستخدم القبائل المختلفة الزخرفة، أو أوانيها الفخارية، وتبني منازلها، بطريقة تختلف عن بعضها اختلافاً بسيطاً، ولكن أوجه التشابه بينها كانت تغطي على أوجه الخلاف.
وبهذا يؤكد لنا رالف لنتون ما كانت عليه منطقة جنوب غرب آسيا من توغل في عمق التاريخ الحضاري بالرغم من تقدمه بحقب كبيرة عما وصل إليه الباحثون والمنقبون في العصر الحديث؛ إلا أنه يتحدث بكل ثقة عن معطيات حضارية موغلة في القدم ولا يعادل صعوبة معرفة الأماكن الحقيقية التي نشأت منها النباتات والحيوانات المختلفة في هذه المنطقة إلا معرفة الأزمنة، على وجه التحديد التي ظهرت فيها بعض المظاهر الحضارية التي كونت مع بعضها البعض صرح الحضارة في منطقة جنوب غرب آسيا، والتي انتشرت في جميع أرجاء البلاد، وقد تبع تطور إنتاج الغذاء في هذه المنقطة تقدما حضاريا سريعا لدرجة أنه يصعب علينا أن نعرف بوضوح وعلى وجه التأكيد محتويات أي طبقة من الطبقات التي تدل على تتابع العصور الزمنية في المناطق الأثرية.
فكانت هذه المنطقة مهدا للحضارة وبجذور عتيقة لمنابتها، فلم تكن مجرد تدجين نباتات أو استئناس حيوان فحسب، وإنما كانت مدرجاً للاختراعات ولا يمكننا أبداً أن نجزم متى صنعت أول عجلة، أو متى صنع أول محراث أو نول، أو متى صهر أول معدن، أو متى كتب أول نقش، لكننا نعلم فقط أن كل هذه الاختراعات التي غيرت مجرى الحضارة في العالم قد نشأت في بلاد العالم القديم، وأنه يمكن تتبعها إلى هذه المنطقة؛ وأن ذلك قد تم بين سنتي 5000 و3500 ق. م.
وقد أطلق عليها العصر النيوليتي ثم عصر البرونز ثم عصر الحديد في تقدم الحضارة ويمكن تطبيقها على المناطق التي تأثرت بحضارات منطقة جنوب غرب آسيا، كما ذكر لنتون. بل ربما امتد تاريخها أكثر عمقا وتوغلا في عصور ما قبل التاريخ، فقد تمت اكتشافات تنبئ بتاريخ قديم لتؤكد ما ذهب إليه لنتون، بالرغم من زمن ليس بالقليل على ما ذكره في كتابه شجرة الحضارة وعلى سبيل المثال اكتشاف حضارة العُبيد.
وفترة حضارة العُبيد (4000- 5300 ق. م) تم اكتشافها من قبل فريق تنقيب الغربيين؛ أشير إليها بأنها كانت فترة ما قبل التاريخ وتخص الشرق الأدنى. مثل تل العُبيد - الواقع غرب مدينة أور في جنوب العراق، ضاحية ذي قار - اسمه لفخار العصر الحجري الحديث العائد لفترة ما قبل التاريخ؛ ومنح اسمه أيضا لحضارة العصر الحجري النحاسي التي تمثل أول المستوطنات في السهل الرسوبي لجنوب بلاد ما بين النهرين والخليج العربي ووسط الجزيرة العربية وشرقها. ثقافة العُبيد بدأت منذ حوالي 5300 ق. م واستمرت حتى بداية فترة أوروك 4000 ق.م.، إن أغلب المكتشفات كانت لصناعة المجوهرات والأواني الفخارية، وشهدت فترة العُبيد اختراع عجلة الفخار وبداية العصر النحاسي كما اتسمت بمستوطنات قروية كبيرة وبيوت مستطيلة الشكل ذات غرف عديدة مصنوعة من الطين المشوي (آجر) مع ظهور أول المعابد العامة وفق هندسة معمارية متشابهة، كما تظهر السجلات الأثرية أن فترة العُبيد وصلت إلى نهاية مفاجئة في الخليج العربي وشبه جزيرة عمان في عام 3800 قبل الميلاد.
وقد اعتاد بعض المؤرخين كتابة اسمها بـالعبيد إلا أن متحف كنوز المملكة العربية للآثار - المتحف الوطني بالمملكة العربية السعودية - قد صحح المسمى بكتابته بهذا الشكل العُبَيْد.
أما حضارة الدلمون فقد تم اكتشافها في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية . عالم الآثار والباحث الأميركي بيتر كورنوول في الخمسينات من القرن الماضي قام باكتشاف حضارة الدلمون كما أوردها في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد بعنوان الدلمون.
وقد تأخر اكتشاف هذه الحضارة في هذه المنطقة وتوالى عليها المنقبون الدنمركيون والأميركان وغيرهم.
فالحصول على دليل على وجود مستوطنة كان عمرها أربعة آلاف عام أو أكثر تم من خلال الحفريات التي أجرتها ومن خلال عثورها على أدوات كان يستخدمها الإنسان في ذلك الوقت كالأختام ومتاع القبور ومن خلال أنماط العمارة. ولعل تحليل بقايا العظام والهياكل العظمية تحدد عمر الموتى والمواقع نفسها. وبذلك فإن موقع قلعة البحرين ما هو إلا أحد المواقع المهمة التي جرى التنقيب فيها من أجل الكشف عن حضارة دلمون بجانب موقعين آخرين مهمين هما موقع باربار وسار.
لقد أثار هذا الكم الهائل من المدافن التلية في البحرين، التي يقدر عددها بما يتراوح ما بين 100 - 150 ألف تل، اهتمام الباحثين الذين توصلوا إلى نتيجة مهمة مفادها وجود أكبر مقبرة في فترة ما قبل التاريخ وما صاحبتها من حضارة دلمون. فهذا الفضاء الشاسع من المدافن وطريقة بنائها لا بد أنه كان تعبيرا عن ممارسات طقوسية وعقائدية سائدة آنذاك كما كانت جزءا من ثقافة حضارة إنسانية سالفة، فقد كان هناك اعتقاد سائد بأن جزيرة البحرين كانت تعد أرضا مقدسة في نظر الدلمونيين لذلك فضلوا جلب موتاهم ليدفنوا فيها من البلاد المجاورة. إلا أن هذه الفكرة قابلة للشك، خصوصا بعد أن تم التأكيد على وجود قبور تلية على الساحل الشرقي للجزيرة العربية في منطقة الأحساء، الأمر الذي يدل على أن حضارة دلمون كانت ممتدة على طول الساحل المعروف قديما بإقليم البحرين الذي تشكل جزيرة البحرين جزءا منه.
وبتوالي العصور على هذه المنطقة من الجزيرة العربية يتبين لنا تتابع العصور، بأزمنة مختلفة، وتمر هذه الفترة الطويلة بالعصور الحجرية ثم بفترة العُبَيْد (الألف الخامس قبل الميلاد) ثم بفترة دلمون ثم فترة الممالك العربية المبكرة، ثم الممالك العربية الوسيطة والمتأخرة ثم فترة العهد النبوي ثم فترة الدولة الأموية والعباسية والعصر الإسلامي الوسيط والمتأخر.
هذا وقد ورد في عدد من المصادر أن الجزيرة العربية تنحدر من نسل آدم، إذ قطن آدم عليه السلام - مكة المكرمة - وشيد البيت الحرام كما ذكر سمير عبدالرازق، وأبو الفوز البغدادي وابن كثير والقرطبي والذهبي وغيرهم. ولذا كانت الجزيرة العربية رحم الأرض قاطبة.