هناك رواسب أزمة في عقلنا الاجتماعي لا تزال تهدر حقوق المرأة وتتعامل معها بسطحية لا تليق بأي تطور اجتماعي طبيعي، ذلك يمكن التماسه فيما قامت به محكمة استئناف عمان الشرعية بالأردن
نسف حقوق المرأة ليس من طبيعة المجتمعات المتحضرة، وليس طبيعيا في نفس الوقت أن يستمر انتقاص تلك الحقوق ومصادرتها بحجج ذكورية فاسدة وغير منطقية ولا تتحلى بالموضوعية، ومن واقع ما نتابعه من مجريات تتماس مع المرأة، فإن الانشغال الكثيف بقضاياها وتفاصيلها يتحول إلى أمر انصرافي عن قضايا أكبر وأكثر أهمية في السياقات المجتمعية العامة، وأهمها وأخطرها تجاهل دور الرجل نفسه في الحياة، وما يمكن أن يضيفه حين يتعطل نصف المجتمع، وإغراقه في متاهات التعتيم والتشويه والتخوين وعدم الثقة في قدراته وفكره وأدواره.
ويبدو أنه رغم جرعة الوعي الاجتماعي المقدرة في عالمنا العربي التي استقتها المجتمعات لعوامل حضارية وتحولات تتعلق بحراك ثقافي ونمو في معدلات تعليم المرأة ودمجها في العمليات الإنتاجية، إلا أن هناك رواسب أزمة في عقلنا الاجتماعي لا تزال تهدر حقوق المرأة وتتعامل معها بسطحية لا تليق بأي تطور اجتماعي طبيعي، ذلك يمكن التماسه فيما قامت به محكمة استئناف عمان الشرعية بالأردن أخيرا، بنقضها قرارا لمحكمة شرعية ابتدائية بسبب أنه بني على شهادة أدلت بها امرأة غير محجبة، باعتبار أنها لا تملك أهلية للشهادة.
وفي الحيثيات أن المحكمة نقضت الحكم بموجب طعن أثاره محام بعدم قبول سماع شهادة امرأة لكونها سافرة عن شعر رأسها، حسب وصف القرار، الأمر الذي اعتبرته محكمة الاستئناف مانعا من عدالتها في الشهادة، وأثر على نصاب الشهادة، وذلك كله استنادا إلى فتوى للشيخ يوسف القرضاوي يعتبر فيها المرأة غير المحجبة فاسقة.
ودون الخوض في تفاصيل وغياهب شرعية لا نزعم أو ندعي معرفتنا بها، إلا أن ذلك لا يستقر في العقل محل الإدراك والوعي، وقياسات الفسق وعدم الأهلية فاسدة ابتداء لتضادها وتعارضها مع كرامة المرأة، واستخلاص القرضاوي مردود عليه، إذ لربما كانت السافرة أشرف وأعلم وأكثر إدراكا من المحجبة، وكل ذلك قياس ظاهري سطحي غير جدير بالاعتداد به، ولا يأتي إلا في سياقات اجتماعية بالية استمرأت انتهاك حقوق المرأة والانتقاص منها، وإلا ليفتي القرضاوي وغيره من الذين يفـتون بما لم ينزل الله به من سلطان بعـدم جـواز وأهلية شـهادة الرجل السافر في فجوره وسوء خلقه.
مثل هذه الأحكام تعكس أزمة اجتماعية في احترام المرأة، ولا يوجد دين أو فكر إنساني أظهر انتقاصا للمرأة، وإنما هي قواعد اجتماعية لا تستند إلى أسس قويمة، وقضية تغطية الوجه والحجاب أمر مختلف عليه، ويعد جدليا من واقع اختلاف الآراء حوله، ويمكن الاستشهاد في ذلك بما ذهب إليه الدكتور محمد الشحرور من أنه لا علاقة لغطاء الرأس لا من قريب ولا من بعيد بمسألة الحجاب.. غطاء رأس المرأة هو من عادات العرب، ويعزز ذلك ما أقره الأزهر مؤخرا بمنح شهادة دكتوراه للشيخ مصطفى محمد راشد في الشريعة والقانون، تؤكد أن الحجاب من الناحية الفقهية، ليس فريضة إسلامية.
وما يوجب الاختلاف يضعف اتخاذه ثابتا يقرر بشأنه أمرا عاما، وقد اتبع الشيخ راشد رؤيته بمنطق بسيط وهو أن تفسير الآيات بمعزل عن ظروفها التاريخية وأسباب نزولها أدى إلى الالتباس وشيوع مفهوم خاطئ حول حجاب المرأة الذي لم يُذكر لفظه في القرآن الكريم على الإطلاق، وبالتالي فإننا أمام تضييق وعنت حقوقي عظيم لا سند له، وما حدث تجربة لا تتفق مع التطور الإنساني، وليس لها موقع من الإعراب الديني أو الإنساني، غير أنه مزاج سلبي لا يزال يحتكم إلى موروث اجتماعي لم يتم تصحيحه وتصويبه بما يتفق مع الميزان الإنساني.