الإنسان والمكان يشكلان الحضور الطاغي في الحياة، لكل المحمولات الدلالية في مباحث الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثربولوجيا، كما يقول الدكتور حبيب مونسي، ويأتي هذا المقال ليس كدعوة لاستدامة فعل البكاء أو الاستبكاء على الأطلال والأحجار الدفينة، ولكنه دعوة لإضفاء الحياة على الجامد الحي وما يكمن فيه من حنين ومشاعر واستبطان نفسي عميق، ألم يقل الشاعر إلياس أبو شبكة: أيا سائل الصخر عن جاره.. دع الصخر ينطق بأخباره.. فليس ضنينا بأسراره، عندما أعبر أمام قرية نائية وأرى صاحب دار حديثة أقامها دون أن تمتد يده لتلك الدار العتيقة والتراثية الجاثمة إلى جواره، سواء بالهدم أو الإبدال والإزالة، أشعر أن ذلك الإنسان ضد محو الذاكرة وصهرها وإفنائها، لإيمانه بأن المكان حياة، ولذا تماهى معها - أي الدار - عاطفيا ومعرفيا فمسح على جدرانها برفق ولامس طينها وسقوفها وخوابيها، لتستيقظ من نومها ناشرة دفاتر الكلام راوية سيرة العمر، قبل أن تهرم العروق في الجسد ويندلع الظمأ والموات في رحم اليباب والرحيل، عندما تهدم حيا شعبيا أو تزيل بيتا تراثيا فتذكر أنك تهدم ذاكرة مرهفة، وتدمر وعاء ذوقيا وجماليا، وتمزق حواس ومرئيات ملتحمة مع الهوية، وتشكل قطيعة وعزلة مع الجذر التاريخي، هناك من يسخر من هكذا حديث ويرى أن البناء لا يقوم إلا بالهدم كضرورة حضارية، وتلك معضلة أخرى وجدلية بائسة وحذلقات ممجوجة ومبتورة، فلا مناص من الخروج على هذه الرؤية المنافية لأبسط قواعد المتتاليات في سلم الحضارة.
إن تلك الأحياء والديار هي شجرة النسب للأرض وسكانها، وسلالة البشر الذين دبوا على أديمها وركضوا فوق ترابها، إنها الوثيقة الصادقة التي تحكي عن التحولات الثقافية والاجتماعية والتاريخية لكل أمة.
إن الجنوح إلى النسيان والتناسي وقتل المكان هو خصومة وتباعد وتضاد مع الشرط التاريخي، وهتك ونسف للمخيلة والذاكرة الجمعية، وتقاطع مع المعاش البشري وفاعليته، إن علينا الاحتفاظ بهذا الموروث وإعادة إنتاج ذاته بصيغة تستلهم الزمان والمكان الحاضرين، دون التفريط في سماته ومقارباته وفهم لغته وخصيصته وأبجديته المنبثة في كونه وتكوينه، إن ما نفعله خلخلة في النسق ونقصان في الوعي ومتاهة مغايرة، تفقدنا أعذب موجوداتنا وأندر مواريثنا وليس كما يراها البعض انغلاقا ذاتيا ومثالية اجترارية وفعلا استسلاميا للماضي وسطوته وهيمنته، يقول أبو ريشة: قفي قدمي إن هذا المكان يغيب به المرء عن حسه، رمال وأنقاض صرح هوت أعاليه تبحث عن أسه، أقلب طرفي به ذاهلا وأسأل يومي عن أمسه، أكانت تسيل عليه الحياة وتغفو الجفون على أنسه؟.