تخطئُ الهدفَ كثيرٌ من الرسائل التي تتخذ من الفن لغة ومركبا، إذا اعتمدت فقط على قوة الصوت متفجّراً من ثنايا الموضوع الذي تجري مقاربته أو القضية التي يتم الاشتغال عليها. لن يكون الموضوع ولا القضية رافعة للإبلاغ والتعبير في غياب الوسيلة وإدراك اللغة المناسبة واستثمار الأدوات المساندة من الحقل الفني الذي اتخذته الرسالة وسيطاً جمالياًّ تنفذ من خلاله إلى هدفها؛ بتبليغ الرسالة كأثرٍ فنيٍّ يُعتد بأداته ويُبذَل دم الإبداع سارياً يَمنح الحياة ويضاعف الخُطَى إلى الهدف. هنا لن تنخذل الرسالة ولن تضلَّ سبيلها، بل إن المتلقي سوف ينهض من كرسي الحياد والفرجة والتلصص إلى طاولة المشاركة في النداء الإنساني الذي يتعالى من أحشاء العمل.
شاهدتُ مؤخراً فيلم حجر الصبر من تأليف وإخراج الروائي الأفغاني عتيق رحيمي الذي عرض لمأساة المرأة الأفغانية ووقوعها في مرمى نيران أمراء الحرب بعمائم تدّعي الدين فيما هي تشوّهُه وتزيد البلاد خراباً فوق خراب أو رماداً فوق رماد؛ وتحت سطوة العادات والتقاليد التي تتعامل مع المرأة هناك وكأنها من سقط المتاع. مجرّد شيء لا حولَ له ولا قوّة، يجوزُ في حقّه كلّ شيء بلا وازعٍ من ضميرٍ أو أخلاق ولا يجوز له أيّ شيء. محض سلعة للتبادل في سوق الرهان، ومحطّ متعة ونيل الوطر بشرط أن تكون حرْثاً مواتياً يثمر ويفرّخ وإلا فهي منبوذة يُحكَم عليها بالإقصاء وهي التي لم تتعلم ولم تُهيّأ لها السبل لاكتساب مهنة شريفة تيسّر لها لقمة العيش، فلا ينفتح أمام بعضهن ـ والحال كما هي عليه من الخصاصة والانقطاع بلا عائل ولا مهنة ـ إلا بابٌ واحد هو الانزلاق في بيع اللذة اضطراراً.
هاوية سحيقة تتردّى فيها المرأة الأفغانية في فيلم حجر الصبر. نبع حارق من الآلام يضخّها أمراء الحرب وسلاطين العادات والتقاليد على جسد هذه المرأة. كمية هائلة من المرارات يتبلّعها هذا الجسد الذي يريد أن يعيش وأن يعلن احتجاجه وتصريفه الأذى يتناوشه ليل نهار.بطلة الفيلم التي أثخنتْها وقائع الحرب بزوج مصاب بطلق ناريٍّ في رقبته عقب خلاف مع زميل في السلاح اشتبك معه بعد أن تعدّى عليه بكلمات نابيّة تحطّ من منزلة أمّه. أصبح الزوج معاقاً مشلولاً، جسده مُعطّل الوظائف صلته بالعالم أنبوب التغذيّة المعلّق بمسمار في الجدار تعلوه صورته شاباًّ؛ وعينان مفتوحتان على وسعهما ولا ندري مع أحداث الفيلم هل هما تدركان ما يحيط بالجسد وتترجمان ما يقع أمامه وتسمعه أذناه في المنزل. جسد مرميّ في عهدة الزوجة تقرأ عليه وصايا الشيخ العلاجية وتجدّد له المغذّي. الجسد المتبدّي غائباً تمثّل للزوجة حجراً تسرد عليه أوجاعها وأسرارها التي تكشف غزارة المعاناة التي مرّت بها في عائلتها عند الأب الذي أهمل واجباته الأسريّة لصالح هوايته في شراء الطيور والاشتراك في مسابقات صراعها ولا يتورّع في أن يدفع بأختها ورقةً رخيصةً لقاء الاستمرار في هوايته. تسرد عليه حكاية عقمه التي لا يعرف عنها رغم أن لها أطفالاً منه تدبّرتْ الحمل بهم عن طريق مشعوذ يزرع بذرته وهو لا يراها وهي لا تراه؛ تلجأ لهذا الحل لأنّ عيب العقم وعدم الإنجاب سوف يُلصَق بها وسوف يتم نبذها كما حدث مع العمّة العقيمة التي نُبذت فحلّتْ بها لعنة الإقصاء والاستسلام لدرب الرذيلة.تسرد على الزوج العاجز؛ حجر صبرها جميع أسرارها. حجر الصبر الذي تقول عنه الأسطورة إنه يتلقّى الأسرار وعندما تتراكم عليه ـ تلك الأسرار ـ ويتشبّع فإنه ينفلق ويتفتّت ومعه تتحقّق الراحة والعتق والتحرّر لمن أسلم سره للحجر.
في آخر لقطة للفيلم نشهد عيني الزوج تطرفان، والجسد الهامد تتحرّك منه اليدان لخنق الزوجة التي تجلّت مرآةً منصوبةً أمامه تتطافر منها الصور والمشاهد؛ تحقن الحجر بما يذيبه ويعجّل بتفتيته بالأسرار وبالسكين التي أنضجت الزوج للموت؛ لتحريرها.
* ناقد سعودي