أفلس الإخوان لدرجة انزلاقهم لممارسة الإرهاب صراحة بجرائم التفجيرات والمواجهات الدامية شبه اليومية مع قوات الجيش والشرطة، فراحوا يسبون غالبية المجتمع ويصفونه بعبارات قبيحة بعدما خسروا ظهيرهم الشعبي، الذي كان يتعاطف معهم خلال ملاحقات نظام مبارك
من سمات مراحل التحول الكبرى في تاريخ الأمم أنها تُشكّل محطة كاشفة إذ تضع مرآة بحجم الوطن ليرى فيها كل أطراف المشهد أنفسهم والآخرين، لكن ما يحدث أن الجميع يرون الصورة من الزوايا المحدبة أو المقعرة للمرآة الافتراضية الهائلة، فيتورم فصيل بطريقة مرضية، ويتصور آخر ضآلة خصمه لدرجة إنكار الواقع، ويتعمق الاستقطاب السياسي ويتمدد اجتماعيًا، لتبدأ معركة المزايدات وتبادل الاتهامات، وصولا للاشتباكات اللفظية والبدنية، التي تقود الفرقاء إلى معادلة صفرية لا يحسمها حوار بين متناقضين قطعا جسور التواصل، لدرجة أن كليهما لا يرغب بمجرد رؤية الآخر ناهيك عن الاستماع إليه، ليصبح الحسم الميداني هو الخيار الوحيد لتلك المواجهة المفتوحة على الأصعدة كافة.
حالة الاحتقان هذه ليست الأولى من نوعها التي تشهدها مصر، فقد حدثت إبّان العهد الناصري الذي نجح بحسمها سريعًا، لأنه كان يحمل مشروعًا سياسيًا، بغض النظر عن اختلاف الرؤى حول مضمونه ونتائجه، وأشير إلى أنني لست من أنصار المشروع الناصري، لكن لا يمكنني تجاهله أو القفز عليه أو الطعن في وطنيته، لهذا سحق عبدالناصر الإخوان بين السجون والمنفى ليدخلوا مرحلة كمون ظلت مستمرة حتى استحضرها السادات على النحو المعروف للكافة، واستخدمهم لمواجهة خصومه السياسيين، لكنهم - كعهدنا بهم - انقضوا عليه واغتالوه ليكتبوا صفحة جديدة من سلسلة انقلاباتهم.
اعتلى مبارك السلطة وتصاعد الصراع بينه وبين الإخوان ومن خرجوا من عباءتهم خلال عقد الثمانينات، ليصل لذروته خلال التسعينات وكان الحسم الأمني هو الذي قاد لصيغة مبادرات وقف العنف، التي أطلقها قادة تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد، وبعد 25 يناير اتضح زيفها، وانقلب عليها معظم صانعيها، باستثناءات محدودة.
لكن المواجهة الراهنة أعمق وأشرس وأوسع، إذ جمعت أطياف الإسلام السياسي كافة، بالإضافة لشرائح محتقنة من اليسار الفوضوي والحركات المشبوهة التي استخدمتها قوى خارجية في حروب الجيل الرابع، ليصطف هذا الخليط غير المتجانس من مشارب متناقضة ضد خيار الدولة المركزية.
وإذا كان الإخوان يستخدمون ضد خصومهم فزّاعات مثل: الثورة المضادة، الانقلاب، حكم العسكر، الفلول، الدولة البوليسية.. الخ فإن حلفاءهم المدنيين الذين لا تجمعهم بالإخوان سوى معاداة المسار السياسي الراهن لنسف فكرة الدولة ذاتها، يرون أن هدم المعبد هو الحل لدرجة أنهم تجاوزوا اتهام خصومهم بالفزّاعات القديمة مثل الانقلابي، الأمنجي، النكسجي.. الخ لتهمة جديدة اسمها الدولجي التي استوقفتني مصدومًا لأتساءل: هل أصبح مجرد الانحياز للدولة - وليس النظام الحاكم - تهمة؟!
خاض هؤلاء المراهقون سياسيًا جميع معاركهم دون بديل سياسي واقعي يطرحونه، فسقط مبارك ونظامه وحزبه وتدحرجت الثورة لتصب في حجر الإخوان الذين أطاحوا بالمجلس العسكري، ثم أطاحت إرادة شعبية دعمتها القوات المسلحة - كما دعمت الحراك الثوري في 25 يناير - بمرسي ونظام حكم الإخوان، لكن الحصاد كان من نصيب الفاشية الإخوانية التي تجيد اختطافه، والكارثة أن هؤلاء الثورجية المأزومين العبثيين لم يتعلموا الدرس، وما زالوا يمارسون الاحتجاجات دون بلورة بديل، ويتخبطون في ذات الدائرة المفرغة، لدرجة تستدعي الشفقة، أكثر مما تُثير الغثيان والاشمئزاز.
أفلس الإخوان لدرجة انزلاقهم لممارسة الإرهاب صراحة بجرائم التفجيرات والاغتيالات والمواجهات الدامية شبه اليومية مع قوات الجيش والشرطة، فراحوا يسبون غالبية المجتمع ويصفونه بعبارات قبيحة على شاكلة عبيد البيادة بعدما خسروا ظهيرهم الشعبي الذي كان يتعاطف معهم خلال ملاحقات نظام مبارك، ومارس الثورجية المراهقون الوصاية على المجتمع باتهام قطاعات عريضة من الشعب بأبشع التهم، وأمسى التشنج والابتذال وخطاب البذاءات والمهاترات هي كل بضاعتهم، حتى تحولوا لمجرد أدوات تعبث بها قوى إقليمية ودولية، فكشفوا بفجاجة مقززة عن عدائهم الصريح للدولة، واخترعوا تهمة غير مسبوقة في تاريخ مصر لخصومهم اسمها الدولجية، وهذا أكثر مشاهد مرحلة التحولات عبثية، والتي تؤكد أن المعادلة الصفرية صارت الخيار الأوحد، فلا سبيل سوى حسم المعركة ميدانيًا أولا، وبعدها سيكون لكل حادث حديث، على أن يجري ذلك بالتوازي مع المضّي قُدمًا بخطوات حاسمة في مسار خريطة الطريق، التي توافقت عليها غالبية الشعب سعيًا لبداية الجمهورية الجديدة التي لن تُقصي فصيلاً ما دام يحترم الدستور والقوانين، ويعترف صراحة بقواعد اللعبة السياسية دون وصمها بعدم الشرعية، وتعمد شيطنتها على النحو الذي يُصر عليه الإخوان وأنصارهم.