قوة مصر وسيادتها وتماسك نسيجها الاجتماعي ومتانة نظامها السياسي المستقل، هي الأولويات القصوى في الظروف الراهنة، ولا يقلل ذلك من أهمية مهام التنمية، فالإسكان والصحة وفرص العمل ضرورات يتعين إشباعها

الزمن يتغير بمقدار معطى الحياة واختلاف الأنماط والتوجهات والمصائر التي تختارها الأمم.
ولذلك فإن التاريخ ـ وهو موضع جدل بين مصداقية الرواية وسلامة الاستشراف ـ ليس نصاً ولا مساراً واحداً، لكننا نمتلك القدرة على رؤيته كذلك في محطات نادرة تواري إضماراتها الهائلة من التطلعات والاختيارات المكثفة حول هدف بعينه.. هدف استراتيجي ملح وعادل يرتاد الناس من خلاله أفقاً للرؤية المستقبلية البعيدة ومتى أمسكوا مفتاحها ووضعوا عجلة قطارها على سكة السير عادوا مجدداً للبحث عن التفاصيل..
هل هذا ما ستفعله مصر وينشغل الشعب المصري به في راهنهما المعاش أم أن باعث التفاصيل في السباق الانتخابي على رئاسة الجمهورية سيأخذهما إلى الطرق الجانبية، ويحتجز إرادة التاريخ في إضبارة القضايا المطلبية، فينقسم جمهور الناخبين وتقصم الدسائس الخارجية ظهر أبو الهول و– حال هذا – تصبح إرادة مصر رهناً لاحتمالات الحواري المخطوفة في جراب (التدين) الخادع.
هل تكمن الحاجة المصرية والعربية في الرئيس السوبرمان، هل نجد بوتقة الإرادات المشتركة – بين الداخل الوطني والقلق القومي النبيل – تبحث في كومة القش المركوم ورغو الزبد المتصاعد عن فص الألماس المضيء على قرط كليوباترا فيستغرقنا الهيام بمنطق السياسي اللبق الذي يحسن عرض برنامجه وتروقنا إجاباته الجاهزة عن أسئلة السياسة والاقتصاد والتنمية، ويهدهد خواطر الشعب بالأماني ويضع وسادة الأحلام تحت رأس الناخب ريثما ينام.. هل هذا ما تحتاجه مصر..؟ مرسي فعل هذا وزاد عليه التنازل للشعب عن وفورات الإخوان المسلمين في الجنة؟ لكنه لم يترك للمصريين شيئاً من متاع الدنيا وكلما عثر عليه أثناء وبعد حكمه نذر الموت ووعود التفريط بالأرض والسيادة والحرية..
مصر على مفترق طرق.. بين أن تكون دولة العرب الأم، أو الدولة المجتزأة والكيان المهترئ..؟
أعلم أن الانتخابات في كل ديموقراطياتنا العربية، ليست موسماً للصدق لكنها في ظروف مصر العصيبة الراهنة تستدعي التجريد وليس مجرد الصدق فقط.. والرئيس المصري القادم لا يفترض به نثر الوعود قدر الاطمئنان لمؤهلاته المتصلة بمهام الحفاظ على الهوية وحماية السيادة وحراسة الحدود.. تحضر التنمية وبرامج الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي فوق طاولته في صورة قرارات عليا تصوغها مؤسسات الدولة المصرية (برلمان منتخب وحكومة كفاءات مقتدرة وقضاء عادل)، وليس على الرئيس أي رئيس دولة أن يقدم برنامجه الانتخابي نيابة عن كل هذه المؤسسات.. حسبه تحديد الخطوط العريضة لتوجهات الدولة، فإذا أغرق في التفاصيل صار الأمر عملاً من أعمال الرئيس السوبرمان!!
مصر ولا ريب أمام تحدٍّ مختلف في زمنه وخاصياته وهدفه.. وتواجه مؤسساتها خطر الإنهاك السياسي والبشري، كما وتضيف الصعوبات الاقتصادية إلى أوضاعها الكثير من التعقيدات.
لكن المعضلة ليست هنا.. إذ لا شيء سيحدث قبل تأمين مسار الدولة ونزع مختلف تداعيات الخطر المحدق بالسيادة، تلك هي الأولوية التي لا ترقى إلى أهميتها أي من الاعتبارات الداخلية الأخرى.
وبداهة كيف لدولة في الأرض أن تؤدي واجباتها الاعتيادية تجاه شعبها طالما ظل وجودها رهن مخاطر لم تستكمل الجهود المبذولة لمواجهتها..؟ قوة مصر وسيادتها وتماسك نسيجها الاجتماعي ومتانة نظامها السياسي المستقل، هي الأولويات القصوى في الظروف الراهنة ولا يقلل ذلك من أهمية مهام التنمية، فالإسكان والصحة وفرص العمل ضرورات يتعين إشباعها.. لكن لا شيء سيحدث دون دولة.. وإذا تعثر المصريون برغو العَرَض دون التركيز على الجوهر فسيتكفل الطرف أو الأطراف الخارجية بتغذية المشكلات الفرعية وضمان استدامتها، الأمر الذي يلقي على كاهل الشعب مسؤولية بناء ميزان قوة الدولة وتحرير إرادتها السياسية من تبعات الارتهان الذي نال مصر خلال حقبتي مبارك ومرسي، وبذلك تغدو المعضلات الراهنة أقل استعصاء.
أعلم أن تجربة الشعب المصري مع ميزان القوة - جد - مريرة، وما يبرح مئات الآلاف من شهداء مصر – سقطوا على أكثر من جبهة عربية – يشكلون مجسماً عريضاً للجرح الغائر غير أن الوضع لم يعد بنفس سياقه التاريخي القديم، فقوة مصر وثقلها الاستراتيجي القادم لا يعملان في خدمة الأيدلوجيا ولا يشتغلان على وهج شعار أحادي تدفع مصر ثمنه بمفردها وإنما يتجهان صوب ضرورات تمس الأمن القومي العربي، وهنا يصبح التكامل بين قوة مصر واقتصاديات أشقائها استحقاقاً تبادلياً متكافئاً يبلور الحاجة القومية المشتركة للدفاع عن النفس والشروع في تفكيك المشروع الأميركي المتسلل عبر أنفاق التدين السياسي لجماعة الإخوان المسلمين والحركات الأصولية المتطرفة، وبصدارتها تلك المشمولة بقرار الحضر السعودي الإماراتي البحريني، وربما العربي الشامل كما يلوح في تجليات المشهد العام.
مرة أخرى مصر تعنينا.. وشعبها يدرك أين يكون مفتاح التحول الاستراتيجي الكفيل بمواجهة الملفات الآنية ذات الحضور اليومي في معيشة الناس، وهي بالتأكيد ملفات مؤرقة متى تم ربطها منذ الآن برئيس الجمهورية.. ولهذا يمكن تسليط الضوء ـ لا على البرامج التنافسية ـ ولكن على رجال الرئيس ومجموعات الحكماء حوله ومواصفاته العلمية لحكومة مصر ورجالاتها الاستثنائيين في الزمن الاستثنائي الحاسم.