غياب 'مباحث الربوبية' في المباحث العقدية المعاصرة بشكل مفصل ومستوعب لمستجدات العلوم الحديثة، والتذرع بحجج كإيمان الكفار بالربوبية، أضعفا العقلية الدعوية المعاصرة في هذا الباب، وفتحا المجال لمن يغري الشباب بالإلحاد

في كتابه القيّم: رحلة عقل، ساح الدكتور عمرو شريف في رحلة مع كبير الملاحدة العصريين الذي كان يعد منظر الإلحاد في العصر الحاضر أنتوني فلو أستاذ الفلسفة البريطاني، الذي فاجأ الجميع عام 2004 -وقد بلغ الثمانين عاماً من العمر، قضى أكثر من خمسين عاماً في التنظير للإلحاد، وكان عراب الملاحدة العصريين- فاجأ الجميع بأن للكون إلهاً، بعد أن ألف ونظر وبحث وناظر في نفيه وإنكاره عشرات السنوات.. ثم أصدر في 2007 كتابه: للكون إله: كيف عدل أشرس ملحد عن الإلحاد.
إن أنتوني فلو لم يسلم، ولكنه انتقل من الإلحاد إلى إثبات أن هذا الكون الفسيح العجيب المنتظم الدقيق لا يمكن أن يأتي عبثاً وصدفة، كما ينظر الملاحدة، إنه لا يمكن أن ينشأ من غير إله حكيم عليم له صفات الجمال والكمال والعظمة الذي أوجد الخلق وأبدعه، وتقرير هذا الأمر يقارب الإنسان من الهداية والإسلام بلا شك.
لقد أصيب العالم الحديث بربكة كبيرة تسبب فيها طغيان المادة ونشوء النظريات الوضعية في الموقف السلبي من الأديان وعداوتها، وربما أسهمت الكنيسة الأوروبية باستبدادها وحصرها العلوم بناء على نظريات الكتاب المقدس وما يقرره الأحبار والرهبان في صدود الناس عن الدين، ولأن النظريات العلمية قد هزت كثيراً من القناعات الكنسية حول الكون ونظامه وأبطلت كثيراً من النظريات التي كانت تروج على أنها حق لا مرية فيه وأن مصدرها رباني، ولأن الكنيسة كانت صاحبة سلطة مطلقة فإن هذه الكشوفات العلمية هي في حقيقتها تهديد لهذه السلطة وقضاء عليها، لذا واجهتها أشد المواجهة، فقامت الحرب بين سلطة الكنيسة المستبدة وبين سلطة العلم وفتوحاته الجديدة، فانتصر العلم في أوروبا على الكنيسة وسلطانها، وذلك بسبب تعسفها في إثبات حقائقها، وتحريف الأحبار والرهبان للكتاب المقدس، والتحكم بالآراء ورفعها منزلة لا يمكن معها مناقشتها، فكانت النتيجة أن انصرف الناس عن تعاليمها، وبدأت بذرة الإلحاد والشك بمقررات الدين.
لكن العلم لم يصمد طويلاً في عدائه للدين، فكلما تطور البحث العلمي، وكلما ظهرت النظريات العلمية، كان ذلك سبيلاً إلى إثبات صحة الإيمان وتقوية لشوكة أهله، فاكتشاف الفضاء، وثورة التكنلوجيا العلمية الدقيقة، ومباحث الخلايا الجذعية والـدي إن أي والهندسة الوراثية و(اكتشاف التصميم الذكي للكون) وإثبات علماء فيزياء الكم عدم صحة نظرية النشوء التلقائي للكون، كل ذلك يثبت يقيناً رفض العشوائية التي يتذرع بها الذين لا يؤمنون.
إنني على يقين، وبكل ثقة أقرر أن المعركة بين الدين والعلم قد انتهت لصالح الدين، وأن مقررات العلم الحديثة ما هي إلا لخدمة مقررات الدين، وأن الإلحاد والملاحدة إنما يعبرون عن نفسيات متأزمة تحتاج إلى علاج نفسي أكثر من حاجتها إلى الحجاج العقلي، فالهاتف الداخلي الإنساني ينكر هرطقات الملاحدة، وشواهد الكون واختلاف الليل والنهار تدل بداهة على انتفاء الصدفة والعبثية والتلقائية، ومقررات العلم وكشوفاته تجعل القائلين بالصدفة والعشوائية محل سخرية وتندر من العقلاء، وقد أعفانا العلماء الكبار المعاصرون من هذه القضية، وتبقى التعبة الكبرى على أهل الإسلام في تكملة المشوار والرحلة إلى إثبات صحة النبوات ومحاجة الدهريين أو الربوبيين في ذلك، وهذا يحتاج إلى جهود مضنية في التمكن العلمي والبحثي والمجادلة بالتي هي أحسن، وإعداد المتميزين من طلبة العلم الذين انشغل كثير منهم في فروع لا تنفع، ومهاترات لا تجدي، لميدان الإثبات والمناظرة، فهذا جزء من مندوبات الشريعة ومطلوباتها التي هي من أفضل ما يقوم به العلم والداعية وطالب العلم.
إن غياب مباحث الربوبية في المباحث العقدية المعاصرة بشكل مفصل ومستوعب لمستجدات العلوم الحديثة، والتذرع بحجج كإيمان الكفار بالربوبية أضعف العقلية الدعوية المعاصرة في هذا الباب العظيم، وفتح المجال لمن يغري الشباب بالإلحاد من خلال هذا الضعف المستحكم مع وجود المسببات الكثيرة لنفرة الناس من الدين، كالانفتاح الثقافي وضعف المسلمين، وطغيان الطرح المادي، والتفوق الحضاري لغير المسلمين، وسيل الشبهات الجارف الذي تعج به المنتديات ومواقع التواصل، ولذا وجدنا في الواقع -إلا ما ندر- عند من يتصدى لهذا الباب إما عالم شرعي متقن ولكنه ضعيف في باب العلوم المعاصرة أو عالم طبائعي متفوق ومتابع لمستجدات العصر ولكنه ضعيف من حيث التكوين العلمي الشرعي ومسائل المناظرة والحجاج، والواقع بحاجة إلى جهود جماعة يكمل بعضها بعضاً في هذا المجال الكبير، فالغائية عند المسلم تحتم عليه أن يكون هذا الأمر من أولوياته التي تحتاج منه إلى بذل وصبر مصابرة.