رغم أهمية الصوت الذي يحوي الكلمة الحرة، إلا أن الكتابة يجب ألاّ تدعي أنها ضمير للعالم، ولا صوت للمغلوبين والمظلومين والفقراء!، فالأمر أبسط من ذلك بكثير، يكفي الكاتب أن يكون صوتا فحسب وسط ضجيج الحياة اليومي

الكاتب صوت، صوتٌ ضمن أصوات أخرى متعددة، منها ما يتوافق وكثير منها يختلف، لكنها تظل أصواتا، ويبقى المسموع منها ما يحاول أن يكون صرخة في الظلام. فمن خصائص الصوت عدم انبعاثه في الفراغ، إذ هو موجة تستطيع الوصول عبر الآفاق حين تكون مندفعة في المسافات، فعالمنا كبير ومليء بالفراغات والضجيج، ما قد يمنع وصول الصوت إلى أبعد مدى.
الحنجرة من أهم الأعضاء البيولوجية المسؤولة عن إصدار الصوت بالنسبة للإنسان، غير أن الأمر في حالة الكتابة مختلف تماما، فأدوات الكتابة منذ الأزل كانت صوت صاحبه حتى وإن كان صاحبه أصم أبكم!
ورغم أهمية الصوت الذي يحوي الكلمة الحرة، إلا أن الكتابة يجب ألاّ تدعي أنها ضمير للعالم، ولا صوت للمغلوبين والمظلومين والفقراء! فالأمر أبسط من ذلك بكثير، يكفي الكاتب أن يكون صوتا فحسب، كل ما يرجوه أن يصل الصوت إلى مبتغاه، وسط ضجيج الحياة اليومي، بحسب ما يدركه العقل ويمليه الموقف.
كان الكتاب والصحيفة من أهم الوسائل التي تتيح للكاتب أن يكون صوتا لديه فرصة الإطلالة على قُرائه من خلال مساحات يصبُّ فيها جام عقله أو عاطفته لتكون المكان الذي يوجد فيه حقيقة، ويسعد به لأنه يضم فكره وحرفه ليقدمه للبشر في هذا العالم. ولكن قبل الشروع في الكتابة لملء هذه المساحات الصغيرة أو الكبيرة، قد يتوقف الكاتب كثيرا ويفكر مليا؛ ليس بسبب الحيرة في قضية الكتابة ذاتها، فهي أكثر من رفيقة بالنسبة له، إنما الحيرة في أمر آخر هو: ماذا يكتب؟ وماذا سوف يترتب على الكتابة من نتيجة؟
من الأمور الصعبة التي قد تواجه الآباء أحيانا هي تسمية أبنائهم، وهذا ما يحصل للكاتب حين يحتار في الاختيار ما بين أفكار متعددة وموضوعات كثيرة ليجعلها حالة للكتابة، ربما يستجمع الكاتب قواه ليقول شيئا ذا قيمة، لكنه لن يكون على ثقة من أنه سوف يكون كذلك، وحين يستغرق في التفكير في الأصوات التي حوله، يستمع إلى صوته بمعانيه ودلالاته، وقد يكون مصير هذا الصوت أحيانا الولادة القاصرة، أي غير مكتملة، ولذا قد يرجئ الكتابة إلى أجل آخر ليعيد العبث بمحاولة بعث صوته من جديد.
الأصوات الحقيقية تقاوم الضجيج والظلام. ولكن ربما يلجأ الإنسان إلى كتم الصوت الذي يروق له سماعه، إلا أن كل الأصوات يمكن أن تُفصح عن نفسها بنفسها ولو بعد حين، فالصوت المقصود هو في الأصل فكرة تخرج من عقل، ربما لا يستطيع الإنسان أحيانا إلا أن يخرجها بحالتها التي ولدت بها، وقد تحضر فيها الرمزية أو يكتنفها الغموض، لكنها تمثّل صوتا مستقلا.
ولذا يمكن أن يكون صوت الكتابة معبّرا عن رسالة إنسانية عليا، يتم فيها استلهام جزء من الرسالة والدور في الحياة، ولذلك تعد وسائط وشبكات التواصل الاجتماعي أشبه بحائط كبير للكتابة، بل أصبحت محكا حقيقيا في نجاح عملية التواصل الإنساني، وبالتالي وصول الصوت، فهذه الوسائل أصبحت لسان العالم وعيونه وآذانه.
الجميل في الأمر أن كثيرا من الحناجر التي ملأت الدنيا ضجيجا، أصبحت أشبه بحناجر العصافير في وسط هذه الوسائل، إذ لم يعد الأفراد فيها يسمعون فقط، بل يتكلمون أيضا، فلديهم أصواتهم وليسوا بحاجة إلى البقاء في خانة المفعول به دائما، كما أن الأصوات العالية والمزعجة يمكن ضبط تركيزها أو حتى كتمه لمن لا يريد أن يستمع للأصوات النشاز، فحتى الموسيقى هي عبارة عن مجموعة من الأصوات المزعجة إذا لم يتم ترتيبها وتنظيمها بتراتبية تصنع منها صوتا جميلا ممتعا!