أيقظوا في ذلك المساء حوريات البحر، وجعلوه يبدو أكثر زرقة، ونوارسه أكثر فرحا، استدرجوا جسد التعبير المثقل بالاستنهاض الجمالي، والتطريب الحسي والوجداني، وأوقدوا جمرة الموروث الشعبي، في إغداق مبهج ورنين مرهف، ومزيج مهرجاني آسر، رأيت وأحسست بأعذب المداخل في الانتشاء البهي، وهم يعبرون عن المضمر في دواخلهم، والأمل الساكن بين ضلوعهم، والأغاريد الهاجعة خلف حناجرهم، كسروا رتابة النسق في حفلات التخرج الجامعية، متواطئين مع الفجر التاسع، المترع بالنجاح المضيء، والمشحون بالخصب والامتلاء. أطلقوا في ذلك الحفل خمسين نجمة مثقلة بالوعي مخضلة بالثمار اليانعة، وذاكرة الغبطة المزهرة، ليتسربن غدا كقطرات الندى في مدارات الوطن، يبلسمن الجراح المهيضة، ويخففن لوعة وضراوة الأوجاع والمكابدة في الأجساد المتعبة، ويبعثن دفء العافية في الأرواح المقرورة، وليحتفل الوطن بروافده الإنسانية، ولحظاته التاريخية، وهو يشعر بنعمة الإحساس الدفين بتحقيق أحلامه الرغيدة والوارفة، إنهم صوت الأمل ضد شهقة اليأس والقنوط، إنهم فنارات الدروب ضد العتمة والخيبات والمتاهة. هكذا في جازان يعبرون عن أفراحهم وانهيالاتهم وتوقهم، وما تفيض به نفوسهم العذبة، وهم يشهدون ما تطرحه شجرة جامعتهم التي لا تتثاءب، ومكمن منجمهم ومخزونهم الذي لا يضمحل أو يهدأ، جامعة تشكل منعطفا اندفاعيا في حضور الوعي، ومؤسسة معرفية مغايرة تليق بروح العصر، ست حناجر وستة أصوات، حملت حس الدهشة وافتتان الشعر الطروب، حين روضت المدخلية الموسيقى وأجبرتها أن تذعن أمام جبروت الفصحى، وتنتزع من أحشاء المعجم ما يبعث الجذل الإيقاعي، والاستغراق السمعي الراجف والإنشاد الاحتفائي المتجانس. إنها جنادرية أخرى، كما يقول صديقي الأديب محمد البريدي، إنه فرح السنابل في ليالي عرسها، فإشاعة البهجة والإفصاح عنها، ونسج معالمها بتلك الصورة، هو خروج عن المألوف، وكسر لتلك التمظهرات الباردة والكئيبة التي اعتدناها، وزحزحة لما استقر في الذائقة الجمعية من الإنشاءات المعلبة، والصيغ الناجزة، والنمطية الباهتة، يغمرني فرح طفولي أخاذ كلما حضرت أو أبصرت حفل تخرج، أحس حينها بنكهة الحياة الندية، وطعم المستقبل الذي لا يبلى، ويبللني لحظتها عطر الوجود الذي يتضوع في بساتين الوطن. إنهم الكائنات الجميلة التي تربت بسواعدها الطاهرة على أكتاف الوطن الأطهر، إنهم السيرورة الهادرة والصاعدة نحو شروق الشمس. إنهم المسافرون إلى الأيام الخضر يحفهم نسيم الروح المرسل والطافح بالهتاف الباذخ، والأمل المتوشح بالفجر ومصابيح النهار. إنهم يرفعون منسوب الزهو المقمر والراكض نحو المستقبل المفعم بالضوء والعزة والكبرياء، فغدا ينمو المجد على آثارهم في وطن هو جنة الدنيا سهولا وجبالا.