مجتمعنا السعودي، يوجد فيه محافظون متزنون وعقلانيون، حافظوا عليه وحفظوا له توازنه، بكل اقتدار وحكمة وروية منذ تأسيس مملكتنا؛ ولكن دورهم قد غيب أو همش على يد من اختطفوا 'المحافظة منهم' وجيروها لأجنداتهم
جل المجتمعات العربية إن لم نقل كلها، مجتمعات محافظة، والفرق بينها في درجة المحافظة، لا عدمها. ومجتمعنا السعودي بلا جدل، يعد من أقصاها درجة في المحافظة؛ وهذا ليس سراً، حيث يعد كثير من أفراده محافظتهم مفخرة لهم بين المجتمعات. وتأتي المحافظة مقابل الانفتاح والتقدمية الاجتماعية. ومن المفترض بألا يوجد مجتمع بشري عصري يخلو من كلا التوجهين، بنسب تتفاوت أو تتوازن، تسهم في عملية إدارة دفة حراكه الاجتماعي - الاقتصادي - السياسي.
فكما أن للانفتاح والتقدمية شروطا وضوابط، لا تؤتي ثمارها بدونها؛ كذلك المحافظة لن تؤتي ثمارها المرجوة منها بدون شروط وضوابط تحكمها. إذن فالتوجهات المختلفة، والمتناقضة في بعض الحالات، والمتعايشة والمتكاتفة جنباً إلا جنب في أي مجتمع، دلالة على عراقته في التحضر، حيث اكتسبها عبر التراكم الخبراتي والمعرفي، وعليه فسمة النضوج لديه أكسبته سمة التحضر.
ولا يمكن لمجتمع بأن يصل لدرجة التحضر إلا عن طريق العمل الهادف المدروس، وأول لبناته، دستور واضح وجلي، يحمي ويصون كرامات وحريات جميع أفراده، بلا استثناءات مهما كانت المبررات، ويحافظ عليها. ويكون معبراً عن مفاهيم إنسانية عليا، متفق عليها ومقبولة إنسانياً من الجميع، تتحكم وتسيير جميع فئاته الاجتماعية على مختلف مشاربها.
عندها يتم تجنيد جميع طاقات المجتمع وإمكاناته المتنوعة لصالح عزته ورقيه؛ هنا تكمن مفاتيح عمرانه وصلاحه، حيث قال تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. أي بأن تحكمَ طيف واحد في المشهد الاجتماعي - مهما حمل من نيات صالحة - يكون تعطيلا لسنة من سنن الله في كونه؛ وعليه يحل الفساد. إذن فالقاعدة التي تقول بأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة نابعة من قراءة صادقة لسنن الله في كونه، والتي لن تجد لها مثيلاً أو بديلاً.
إذن فالمحافظة بحد ذاتها نعمة، عندما توجد مع اتجاهات أخرى في المجتمع، حتى لو كانت هي الغالبة؛ حيث تؤدي هنا دورها الإيجابي في تهدئة الاندفاع التقدمي الذي قد لا يكون محسوب السرعة، أي تكون بمثابة الكابحات لعجلات المجتمع عندما تنحدر في منحدرات أو تمر بتعرجات. ولكن بأن تسيطر المحافظة على الساحة الاجتماعية وتنفرد بها دون غيرها، وتعد نفسها المؤتمن الوحيد عليه، فهنا تتحول المحافظة لنقمة، حيث تتحول من كابحة للسرعة لقيد للحركة الاجتماعية، حيث تقيد حتى حركته التقدمية الطبيعية التلقائية.
ومن طبيعة المحافظة بأنها تتوجس خيفة وريبة من كل جديد وحركة تقدمية، وعليه تتقوقع على نفسها، فتتحول شيئاً فشيئاً لتشدد وتبدأ تقصي أجنحة المجتمع الأخرى الأكثر تقدماً وانفتاحاً منها. خاصة كونها ستصبح محافظة غير محددة المعالم أو واضحة المفاهيم المعبرة عنها ولا تحدها حدود واضحة.
إذن، فمن الطبيعي أن تتحول أطراف من المحافظة - إذا تركت تهيمن وتسود لوحدها - تلقائياً لتشدد يقود لهستيريا رفض ومنع، خاصة عندما تغيب محددات ومحركات وضوابط الحراك الاجتماعي، وتنفرد به لوحدها. حيث تتحول محافظة المحافظة إلى محافظة انتقائية، لدرجة التشدد في حيز الواجبات، خاصة فيما يخص غيرها، والانفلات لدرجة التهور من حيز الحقوق المطلوبة منها. وهنا قد يصدق عليها أي مسمى آخر غير مسمى المحافظة التقليدي المعهود. وعليه يصعب التكهن بحجم سلبيات مخرجاتها. حيث من أبجديات العلم تسمية الأشياء بأسمائها، ووضعها بين أنساقها الأخرى، ليتم التمكن من معرفة خصائصها وعليه تطبيق المناهج العلمية في دراستها، والخروج منها بنتائج تكون أقرب للواقع، والتوقعات المحتملة، ليتم وضع قواعد وأسس ترتكز عليها ليس فقط برامج التنمية المستقبلية للوطن؛ ولكن حتى خططه الأمنية واستقراره المستقبلي.
فمن طبيعة المحافظة المتزنة، بأنها تؤكد في محافظتها على الواجبات، بقدر تأكيدها وتشديدها على المحافظة في رعاية الحقوق وصونها والذود عنها، ولذلك سميت بالمحافظة. كما أنها تنحو نحو المحافظة حتى في ردات فعلها، فهي من يمتص الصدمات بهدوء وروية أكثر من غيرها، حيث لها باع وخبرة طويلة في حفظ التوازنات، أثناء سيرورة التاريخ، أكثر من غيرها. إذن فالمحافظة العقلانية هي مطلب كل مجتمع لحفظ توازنه، بشرط عدم انفرادها به، ويصدق هذا الشرط على باقي التوجهات في المجتمع، بلا استثناء.
ومجتمعنا السعودي، وجد ويوجد فيه محافظون متزنون وعقلانيون، حافظوا عليه وحفظوا له توازنه، بكل اقتدار وحكمة وروية منذ تأسيس مملكتنا؛ ولكن دورهم قد غيب أو همش على يد من اختطفوا المحافظة منهم وجيروها لأجنداتهم الاجتماع – دين – سياسية، من المتشددين والمتطرفين مثلما اختطفوا غيرها مما تبقى من مزايا جميلة يعتز ويفتخر بها، ولوثوها بطرقهم الملتوية والمشبوهة. وأحال المتشددون مصطلح المحافظة لدينا، لساطور توحش يلوحون به بعشوائية وهمجية يميناً ويساراً، أماماً وخلفاً، في وجه كل من يعترض طريق أجنداتهم الرجعية المتوحشة، ولم يسلم منهم حتى أكثر المحافظين في المجتمع خبرة وعلماً وروية ومصداقية وعقلانية.
حتى تجرأ أصغر الغلمان عمراً وعقلاً، وأخذوا يشهرون سواطير المحافظة - غير الحقيقية - بوجه كل مخالف لأجندات من سخروهم وجندوهم؛ ولو كان في عمر أجدادهم، وذا علم مشهود وخير مرصود وتاريخ حكمة ممدود. وهنا أخذ حكماء المحافظة يلتزمون الصمت ويؤثرون السلامة، على ما عداها، حيث عدوا عصر غلمان التطرف والتشدد المفلوت بعبثية لا سابق لها، عصر فتن كقطع الليل، والقابض فيه على دينه، كالقابض على الجمر؛ يتوجب عليهم اعتزاله. وهنا خلت ساحة المحافظة في المجتمع، لكهول التشدد وميليشيات التطرف وأغيلمتها.
وأصبح كتمان العلماء للعلم الشرعي، سمة من سمات العلم الشرعي لدينا، ولو كان المجتمع بأمس الحاجة إليه؛ كل ذلك تحاشياً للطعن في دين وعلم وذمة العالم الشرعي، الذي لا محالة سوف يتعرض لها، ليس فقط من قبل خفافيش النت والظلام، ولكن حتى من قبل بعض خطباء الجمع، وبيانات التشدد والتطرف. وليس بالمستغرب بأن يكذب بعض العلماء وطلبة العلم بعض فتاواهم التي خرجت منهم، ولم تعجب أو تروق لحملة سواطير التشدد والتطرف من أغيلمة وكهول التخلف؛ حتى ولو كانت فتاوى مسجلة أو مصورة.
وهنا النتيجة عندما انفردت المحافظة بالمشهد والحراك الاجتماعي وأصبح المحافظون الذين راق لهم تفردهم بالساحة من قبل، من ضمن ضحايا التشدد والتطرف الذي نتج عن تفردهم بها. حيث أصبح لا مجال في المجتمع إلا للتطرف والأكثر تطرفاً والبحث عن المزيد منه. وهذه طبيعة كونية، فعندما يستفرد تيار يمينياً كان أم يسارياً بمجتمعه، سيفتح المجال أمام المزايدة والنفاق والتشدد. عندها يتم إقصاء العقل وتخلو الساحة إلا من الأكثر جهلاً وصفاقة ودموية؛ وهنا يكمن معنى وتفسد الأرض الذي حذر منه الله سبحانه وتعالى.
ومشاريع خادم الحرمين الشريفين وحكومته الرشيدة الإصلاحية، تهدف لإصلاح التعليم والخطاب الدعوي وغيرهما من الخطط التنموية الاقتصادية والاجتماعية، الهادفة إلى فتح المجال أمام كل أطياف المجتمع الوطنية المخلصة للمشاركة في إعداد وصنع وتنفيذ المشاريع الوطنية. حيث قال - حفظه الله - كلمته الجامعة المانعة الوطن للجميع... أي لا إقصاء ولا استثناء لأحد؛ إلا للعقلية الإقصائية؛ حتى تصلح الأرض وما عليها من حرث ونسل.