قد نجد قرارات إدارية تحقق مصالح شخصية ولكن في نفس الوقت تحقق مصلحة عامة، أو تُظهر مصلحة عامة لم يتم الانتباه إليها، ناهيك عن وجود قرارات من قبل بعض الجهات الحكومية لا تذكر اعتبارات المصلحة العامة

من أجل تحقيق المصلحة العامة قد تسلب حقوق الموظفين ويتم التنكيل بهم، ومن أجل المصلحة العامة قد تنشأ مشاريع لتحقيق منافع وأهداف شخصية، ومن أجل المصلحة العامة قد تعطل مصالح الناس، ومن أجل المصلحة العامة قد تصدر قرارات إدارية محاباة للغير، ومن أجل المصلحة العامة قد يتم التلاعب بالقانون أو التحايل على الأحكام القضائية.
وهذا ما يجعلنا نتساءل حول فكرة المصلحة العامة، ما هي وما مضمونها ومحتواها؟ وكيف نستطيع الحكم على أي نشاط أو قرار إداري معين أو مشروع معين بأنه يخدم المصلحة العامة أو انحرف عنها؟.
فالمصلحة العامة هي الهدف الذي تسعى إليه كافة الجهات الحكومية، وعلى هذا الأساس منحت الإدارة اختصاصات وصلاحيات واسعة، من أجل تحقيق هذا الهدف، وبالتالي فإنه لا يجوز استخدام هذه الصلاحيات في تحقيق أهداف غير مشروعة لا تحقق الصالح العام.
وتتمثل إشكالية فكرة المصلحة العامة، في أنها فكرة نسبية وليست مطلقة، ولا يوجد لها تعريف محدد، إلا أن فقهاء القضاء الإداري وضعوا لها بعض المعايير أو بعبارة أخرى إطارا نظريا، فذكروا بأن المقصود بالمصلحة العامة هو صالح الجماعة ككل، وليس صالح فرد أو فريق أو طائفة من الأفراد، فذلك محض صالح خاص، كما لا يقصد بها مجموع مصالح الأفراد الخاصة، فالجمع لا يمكن أن يرد إلا على أشياء متماثلة لها نفس الطبيعة والصفة، ومثل هذه المصالح الخاصة متعارضة متضاربة، فلا يمكن إضافة بعضها لبعض للخروج بناتج للجميع.
وبناءً على ما سبق، نجد أنه من الصعوبة وضع تعريف لمفهوم المصلحة العامة أو تحديد معيار ثابت لها، وبعيداً عن اختلاف الفقهاء في هذا المجال، فإن استعراض أمثلة من الواقع قد توضح إشكالية هذه الفكرة في بيئة العمل الحكومي.
فقد نجد في بعض الجهات الحكومية التضحية بالمصلحة العامة، وقد تكون على سبيل المثال في درء مخاطر معينة عن الناس من أجل زيادة الموارد المالية أو التقليل من الإنفاق، فتعد هذه الممارسة في رأي بعض البيروقراطيين تحقيق مصلحة عامة متمثلة في زيادة إيرادات الدولة أو التوفير لخزينة الدولة بغض النظر عن المخاطر التي قد تصيب الناس، فزيادة الموارد المالية تعود على المجتمع بوجود خدمات إضافية نتيجة هذه الزيادة المالية!، ولكن في الحقيقة إن الاستغناء عن هذه الزيادة هو الأجدى في تحقيق المصلحة العامة المتمثلة في حماية الناس من هذه المخاطر.
قد تقوم بعض الجهات بتنفيذ مشاريع ظاهرها تقديم خدمات عامة للمواطنين ولكن في حقيقتها هو تسهيل استغلالها للشركات الخاصة، أو قد تقوم بتنفيذ مشاريع داخلية في الجهة نفسها بهدف تطوير كفاءة الأداء الإداري على سبيل المثال بما ينعكس على تحسين الخدمات المقدمة، ولكن في حقيقة الأمر كان الهدف من وراء هذه المشاريع هو التضخيم الإعلامي أو التباهي بهذا الإنجاز مع بقية الجهات الأخرى أو تحقيق مكاسب مالية شخصية ومنافع ذاتية تحت ستار المصلحة العامة.
قد تصدر قرارات إدارية لأجل مصلحة شخصية ولكن بطريقة غير مباشرة، لأجل صلة القرابة أو الصداقة مع الغير، ومن ذلك على سبيل المثال أن تصدر الإدارة قراراً بنقل أحد الموظفين إلى جهة حكومية أخرى لفترة موقتة من أجل الترقية، ثم يعود الموظف مرة أخرى ليشغل نفس المرتبة، التي ما كان ليحوزها لو لم يتبع معه هذا الإجراء.
كما قد تصدر قرارات إدارية بهدف جلب الأذى لبعض الموظفين بسبب وجود عداوة شخصية بين مُصدر القرار وبين من مَس هذا القرار مصلحته، مثل قرارات النقل لأجل مصلحة العمل وتيسير أدائه، أو قرارات تنظيم ساعات العمل بالبصمة الإلكترونية وذلك بهدف تنظيم العمل وتقديم خدمة أفضل للجمهور، ولكن الهدف الحقيقي يكمن في الانتقام من أحد الموظفين.
أكتفي بهذا القدر من الأمثلة، والتي قد نجدها في واقع العمل الحكومي، وكما رأينا آنفاً، فإن الإدارة قد تصدر قرارات تجانب المصلحة العامة دون أن تكون مشوبة بأي غرض شخصي أو نية سيئة، ولكن نتيجةً للجهل بمقتضيات الصالح العام أو تكون عكس ذلك لأسباب شخصية أو محاباة أوواسطة أو انتقام من الغير، ويبقى السؤال المهم وهو كيف نثبت الانحراف عن تحقيق المصلحة العامة؟.
فإثبات عيب هذا الانحراف يكمن في نوايا ومقاصد المسؤول الإداري، ومن الصعب إثباته، وهذا من أحد التحديات التي تواجه الأجهزة الرقابية وكذلك الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد نزاهة، بل حتى ديوان المظالم، وأعتقد أن عددا من البلاغات والشكاوى تتعلق بقضايا الانحراف عن تحقيق المصلحة العامة.
فقد نجد قرارات إدارية أو مشاريع قد تحقق مصالح شخصية ولكن في نفس الوقت قد تحقق مصلحة عامة، أو قد تُظهر مصلحة عامة لم يتم الانتباه إليها، ناهيك عن وجود قرارات من قبل بعض الجهات الحكومية لا تذكر اعتبارات المصلحة العامة، والتي تبرر اتخاذها لهذا القرار، بالإضافة إلى صعوبة الحصول على أدلة الإثبات، التي غالباً ما تكون بحوزة الإدارة هذا إذا لم يتم طمسها أو تعديلها.
ولهذا يلجأ القضاء الإداري لإثبات الانحراف وإلغاء القرار الإداري عادةً إلى اعتبارات مهمة كعدم الاختصاص أو عيب الشكل أو انعدام الأساس أو السند النظامي، لذا أجد من الضروري أن تكون هناك شفافية في الإفصاح عن القضايا التي تصدر فيها أحكام نهائية بخصوص الانحراف عن السلطة وعن تحقيق المصلحة العامة، فهي تشكل مهمة الإدارة الأساسية ويتطلب من الجهات الحكومية عند مزاولة كافة اختصاصاتها أن تستهدف الصالح العام دون غيره، فمشروعية أعمال الإدارة تدور في فلكه، وفي هذه المرحلة على الأقل نحتاج إلى وجود توعية قانونية بأهمية هذه الفكرة المتغيرة وغير الثابتة.