غاب المثقفون وغاب الفنانون والمبدعون إما خلف البحث عن المصالح الشخصية، أو خوفا من التكفير، وإن وُجدوا ففي الظل الذي إن حاولوا الخروج منه سيزَجُ بهم خلف أسوار سجن الإهمال الاجتماعي

إصرارنا على أن يقنع بعضنا بعضا بأننا نعيش في المدينة الفاضلة، إصرارنا على أن نستفتي في كل خطوة وكل حركة حتى قبل أن نخطو وقبل أن نتحرك، إصرارنا على ألا نحيد وألا نزيح عن الخط الوهمي الذي رسمناه لأنفسنا، إصرارنا على رسم المزيد والمزيد من الخطوط الحمراء في كل شبر نوجد فيه، إصرارنا على إضفاء قداسة شرعية على من لا يستحق وازدراء من لا يستحق، إصرارنا على أننا الأفضل والأحسن.. أشياء كثيرة جعلتنا نتقهقر فكريا وعلميا وصناعيا وأدبيا وثقافيا واجتماعيا، فأين الخلل؟
للخلل أوجه عديدة، أحدها أننا نصر على دخول الجنة بكثرة التسبيح والاستغفار وهذا شيء جميل، لكنه بلا عمل وبناء للمصانع والمختبرات ودعم الأفكار، بلا عدالة اجتماعية وإصلاح ودحر للفساد، فنحن بكثرة التسبيح والاستغفار نشيح بوجهنا عن الدنيا وإن بدا الأمر أننا ننشد الجنة ونعيما لا يزول! أو بمعنى آخر إننا من أجل الابتعاد عن جهنم قدر المستطاع حولنا حياتنا إلى جحيم، فالسينما حرام، المسرح حرام، التلفزيون حرام، الدش حرام، الجوال حرام، تعلم اللغات حرام، قراءة كتاب غير مصرح به حرام، حرام علينا ألا نحرم كل شيء إلى أن نألفه ويصبح حلالا زلالا، حينها سنبدأ في تحريم شيء جديد.
تلك هي المقدمة، أما الموضوع، فهو أن هنا عقولا تعتقد اعتقادا جازما بأننا لا نحتاج إلى العالم في شيء، وأن العالم لا يحتاج منّا إلى أي شيء، عقول تلعن المطر وكل أشكال الارتواء، فتنصح وترشد وتعظ بالابتعاد قدر المستطاع عن كل أنواع التحضر والارتقاء تقربا إلى الله وحفاظا على الفضيلة وصفاء العقيدة، كأن الله أمرنا بهذا، كأنه -سبحانه- أمرنا فقط بالركوع والسجود والصيام وتحريم كل شيء آخر، نسينا ونحن في الطريق إلى الجنة أن ثاني المبشرين بالجنة –رضي الله عنه- كان إنسانا منفتحا على الآخر، متقبلا لجميع الآراء، مرناً إلى أبعد الحدود، تجاهلنا ونحن في هذا الطريق أن الله أمر بـلا إكراه في الدين، وأنه لا يصح إجبار الجميع على دخول الجنة بالترهيب والإكراه، حتى لا يتحول واقع المجتمع إلى جحيم.
خلقنا لأنفسنا وهما أن العالم يكيد لنا ويتآمر علينا، وأنه عالم منحط فاسد منحل يحسدنا على إيماننا، لذلك سنرفض كل شيء يأتينا منه، ونرفض في المقابل أن نضيف إليه أي شيء، لا أدب يشار إليه، لا رواية يُعتز بها، لا قصة أو مجموعة قصص تنضم إلى السرد العالمي، لا سينما أو مسرح ولا حتى مقطوعة موسيقية يمكن أن يقال عنها عالمية.
وإن كان ما سبق حرام، فنحن حتى على الجانب الإنساني أو الثقافي أو العلمي نعاني من الخواء، فليس بيننا من تصدر أيا من تلك المجالات، وإن وجد فتلك حالة شاذة اعتمدت على مجهود فردي بحت غالبا ما تم تكفيره! ليس هنا شخص نال أي جائزة عالمية إنسانية أو ثقافية أو علمية أو فنية إلا إذا كنا نعتقد أن الجوائز التي نوزعها على أنفسنا هي فعلا عالمية! فهل صحيح ما يقال بأن العالمية صعبة قوية، وأن قدرنا محصور في المحلية؟!
قد غاب المثقفون وغاب الفنانون والمبدعون إما خلف البحث عن المصالح الشخصية، أو خوفا من التكفير، وإن تواجدوا ففي الظل الذي إن حاولوا الخروج منه سيزَجُ بهم خلف أسوار سجن الإهمال الاجتماعي.
من الطبيعي بعد كل هذا أن تغزونا الرمال، أن يصيبنا التصحر الثقافي والعلمي والأدبي، وحين يغزو الرمل وتتصحر الحياة فمن الطبيعي أن تمتلئ الثقافة بالأشواك، ويخلط الدين بالعادات والتقاليد، ويغيب العقل ليقدم النقل. طبيعي بعد كل هذا أن يدفعنا الخوف من المستقبل إلى المؤخرة، وكما يتجنب الإنسان أشواك نبات الصحراء يخاف المفكر والمبدع والفنان من ثقافة الأشواك، فلا يجرؤ حينها على الاقتراب من كل شيء، لأن كل شيء قد تم إدراجه ضمن الثوابت والمحظورات، ومن يقترب من هذه المناطق فهو حتما يسعى جاهدا لإزاحتنا عن طريق الجنة.
والحقيقة أننا في ظل هذا الجو الغائم ثقافيا وأدبيا وعلميا، لم نقدم للعالم ذلك المفكر الذي نستطيع أن نقول إنه ترك بصمة في الحضارة الإنسانية، أو فيلسوفا حلق بالبشرية إلى عوالم جديدة، حتى العَالِم الإسلامي القادر على التجديد وتنقية ما في الأفهام ما عاد له أثر، الكل يردد ويستورد الأفكار أو يجترّ من الماضي، الكل يريد أن يضمن لنفسه السلامة، فيردد عن وعن، حتى إذا أخطأ لا يلام، أما إذا أصاب فلا أحد سيصفق لأموات!.
بعد كل هذا، ومن أجل كل هذا، كأن المجتمع ما عاد يبحث عن ذلك المفكر أو الأديب أو الفيلسوف أو العَالِم الذي يوضح له الحقائق ويكشف المستور، كأن المجتمع في معمعة هذا الخلل الفكري والثقافي والأدبي يبحث فقط عمن يربت على كتفيه مرددا لا تحزن.