هناك من أجاد توظيف الجهد والتفكير فيما يستحق، مثل خبر انتشر في الوسط التربوي، قبل عدة أيام، ونشرته 'الوطن' على صفحتها الأولى، عن قيام مدير مدرسة بتخصيص فقرات في برنامج الإذاعة الصباحية باللغة البنجلاديشية
نترنم بالألحان.. وأقدامنا حافية.. نهتم بمظهر حاضرنا؛ لأن مستقبلنا حاضر لغيرنا وسوف يهتم به على طريقته الخاصة.. نهتم بمظهرنا ونحن في رث الثياب.
اليوم نعيش الطفره الأخيرة.. ونودع الجديد وأمجاد الجدود، ولا ندرك قيمة المستقبل ومتطلبات أجيال الغد..
مشهد يتكرر أمامنا كثيرا.. عند زيارة السيد المسؤول: تهتز الأرض وتكتسي بالزهور ونلبس الجديد وتفوح روائح العطور وأدخنة البخور.. ويتقدمنا الفصيح بالوصف البليغ واللحن البديع.. نمجد ونخلد ونحتفل ونستعرض ما توصلنا إليه.. نعم توصلنا إلى و... إلى، عندما رأينا ذلك في الجوار.
نعم، نصل إلى الجانب النظري دائما، ثم نقف نحتفل بذلك أو ندشن ونفتتح ونحن في حلة جديدة وأقدامنا حافية.. لذلك لا نهتم بالجانب العملي، ولا نستطيع التقدم لافتقادنا الحذاء الرفيع..
مشهد مؤلم عند زياره السيد المسوؤل إلى أحد المنشآت التي تخدمنا ونخدم فيها.. فيستقبل بالمجاملات والخطب الرنانة.. نستعرض معاً ما توصلنا إليه من تقنيات وما نجيده من تلبيات ونودعه بتذكار ثمين ليظهر غداً على الصحيفة مصرحاً بالهرطقات.. كل ذلك للحاضر الخاضع للتجميل.
أذكر لكم معاناة إحداهن، وهي تشغل منصب مديرة مؤسسة حكومية.. تستضيف مسوؤلا رفيع المستوى، فتجتهد في حسن الاستقبال والضيافة، ويتحرك الجميع، وتُنفق المبالغ الشخصية لتجميل المظهر الخارجي، وتغطية التشققات والثقوب وإكرام البطون لتغطية العيون..
هذه المؤسسة وشبيهاتها يعانين من مستقبل مجهول، ونتاج غير مرض، والسبب أن الجهود المبذولة لم تكن لتأمين غدٍ واعد.. كانت فقط للحاضر الأنيق..
وكمثال بسيط: إن المنافسة أصبحت بين بعض مديرات المدارس قائمة على ألوان ورق الحائط ونوع السيراميك! لم يصبح جديدا علي عندما أزور إحدى المدارس لأناقشها في عدم قبول الطالبات، وتجيب بأنها تريد أن تستمتع بمدرستها بعد أن أنفقت عشرات الآلاف في تزيينها، وأن المبنى الذي استلمته حديثاً فيه عيوب إنشائية! تذكرت على الفور مقولة هنري مينتزبرج عندما قال: القيادة كالسباحة، لا يمكنك تعلمها بالقراءة عنها..
هذه المقوله أوجهها لنا جميعا؛ لأننا اكتفينا بالقراءة وحضور الدورات عن القيادة وعن الجودة، وفي الواقع فشلنا في قيادة أنفسنا، وتجويد أعمالنا فكيف نقود الآخرين؟
تفتقد هذه المؤسسة ومثيلاتها إلى التقدم بخطوات واثقه وعملية؛ لأنها تفتقر إلى التنظيم الصحيح والتأمين المجدي.. هذه المؤسسة ـ أحياناً ـ لا يجد العاملون فيها أبسط الاحتياجات، بالإضافة إلى بيئة وظيفية ملوثة ومحبطة تقتل كل معاني الحماس والإبداع في العمل، وتعاميم وتنظيمات متضاربة ومتعارضة في الأهداف.. وأكرر: الجهود المبذولة كانت فقط للحاضر الأنيق، ولم نكلف أنفسنا بوضع قوانين صارمة يطلع عليها المسؤول والإدارة التنفيذية والموظف البسيط.. وكان من السهل إيجاد ثغرات للهروب من المسؤولية.
سيدي المسؤول: الإدارات الناجحة تحدد الأهداف، وتوكل المهام وتوزع الأدوار بوضوح وقوانين واضحة تطبق على الجميع.. لا قوانين ضبابية تحاسب فقط، ولا ترشد إلى الطريق..
لا تتهاون ـ سيدي المسؤول ـ في إعادة صياغة قوانين المحاسبة.. كفانا إبداعاً في تضييع أوقات أعمالنا بمثل هذه الزيارات المسبقة الدفع عديمة الفائدة، فضعُفَ إنتاجنا وأهملنا تحديد الأولويات، وتراجع أداء الجميع.. أعد بناء مفهوم القيادة من جديد، ووظف الوقت للعمل والبناء، وحاسب من بيده الميزانيات ويبددها في السخافات، لتكون الخدمات أقل ـ دائماً ـ من التوقعات.. ومع كل ذلك يتحمل هذا ـ أيضا ـ الجميع.. والكل يبحث عن الحاضر الأنيق؛ لأننا صمتنا عن تقديم الحلول وارتضينا بالحلول العاجلة والوقتية لنغطي الخلل، وتركنا جذور المشكلة ليقابلها غيرنا فيما بعد، وصمتنا عن المطالبة بحقوقنا المهنية، وما تحتمه علينا ضمائرنا من القيام بمسوؤلياتنا على الوجه الأكمل.. بل تركنا الجميع يأتي فقط ليحاسبنا ولا يدعمنا.. يسلبنا صلاحياتنا ومن ثم يصفنا بالإهمال.. وهذا واقع مرير تعيشه أغلب المؤسسات الحكومية..
يتحمل مثل هذه الإخفاقات الجميع، لأننا نعيش الطفره الأخيرة من أجل هذا اليوم ولا نعير اهتماما للغد.
ولكيلا أكون مجحفة في حق مدارسنا، فهناك من أجاد توظيف الجهد والتفكير فيما يستحق، مثل خبر انتشر في الوسط التربوي، قبل عدة أيام، ونشرته الوطن على صفحتها الأولى، عن قيام مدير مدرسة ـ في بادرة نبيلة ـ بتخصيص فقرات في برنامج الإذاعة الصباحيه باللغة البنجلاديشية، وإظهار التقدير والاحترام للعاملين في النظافة بالمحافظة، لترسيخ قيم احترام المهن والتحضر ونبذ العنصرية في مجتمعنا.
وأختم المقال بموقف حازم يمثل الإداري الناجح والقادر على اتخاذ القرارات المؤطرة بالمصلحة العامة.. لوزير الصحة السابق الدكتور حمد المانع، عندما قام بإقصاء العديد من الأطباء ورؤوساء الأقسام في العديد من المستشفيات الحكومية في مختلف مناطق المملكة..بعد أن لمس بنفسه رداءة الخدمة المقدمة في الأقسام وخاصة الطوارئ.. إيماناً منه ـ وفقه الله ـ بأن نجاح الخدمة المقدمة من جهازه الإداري، لا يكون بالتقارير، وإنما بأن يجرب المسؤول بنفسه تلك الخدمة ومدى جودتها.. والمهم في هذا أن العواطف الإنسانية لا مكان لها في القرارات الإدارية والمصلحة العامة.