في الوقت الذي تعرض فيه تحديات البطالة على وزارة العمل بل وعلى المجتمع بأكمله كي يجد لها حلاً واقعياً نجد من يتصدرون للفتوى بحرمة التعامل مع هذه المؤسسة الوطنية أو تلك لتوظيفها لنساء الوطن
للوهلة الأولى يخيل لمن يقرأ أو يسمع عن الحملة التي قادها مجموعة من المحتسبين على الفضائيات والفيس بوك لمقاطعة متاجر هايبر بندة لتوظيفها فتيات سعوديات في العمل محاسبات أن هذه الوظائف الممتهنة لكرامة المرأة كما يدعون هي وظائف تتم في أماكن ليلية مشبوهة يرتادها الخارجون عن أنظمة المجتمع في جنح الظلام وليست أعمالاً شريفة ووظائف في محال تجارية عامة مفتوحة أمام الجميع يرتادها الكبار والصغار من الأسر والأفراد وعلى مرأى ومسمع من الجميع. ورد في هذه الحملة كما حملت صفحة الموقع عنوان حملة مقاطعة لامتهان بنات المسلمين، وأدرجت في الصفحة مجموعة من صور وشعارات للمقاطعة، إضافة إلى مقاطع تلفزيونية تشتمل على دعوات بعض المشايخ لإنكار عمل المرأة في الأسواق، مع الدعوة لمقاطعة الأسواق التي تسمح لهن بالعمل فيها، مهددين بتعميم المقاطعة على مستوى المملكة.
في الحقيقة إن هذه الحملة جاءت في وقت أصبح فيه شبح البطالة كابوساً يجثم على صدر المجتمع وفي وقت تتزايد فيه طوابير الباحثين عن فرصة عمل من الشباب والشابات ممن يحلمون بالعمل الشريف ليقيهم غائلة العوز أو الانحراف إلى طرق غير مشروعة لكسب الرزق. ففي الوقت الذي تعرض فيه تحديات البطالة على وزارة العمل بل وعلى المجتمع بأكمله كي يجد لها حلاً واقعياً نجد من يتصدرون للفتوى بحرمة التعامل مع هذه المؤسسة الوطنية أو تلك لتوظيفها لنساء الوطن. فهل سمع هؤلاء المعارضون بالعناوين الرئيسية التي تدق رؤوسنا ليل نهار حول طالبي العمل في الصحف والمنتديات؟ هل يعلمون أن هناك 400 ألف سعودي (رجالاً ونساء) هو العدد التقديري للعاطلين عن العمل في البلاد؟ هل قرؤوا إحصاءات وزارة العمل التي تشير إلى أن 142 ألفاً تقدموا إلى وظائف في مكاتب الوزارة غير من تقدموا إلى وظائف عن طريق وزارة الخدمة المدنية، ولا الذين تقدموا إلى الوزارات مباشرة طالبين توظيفهم؟ هل سمعوا بأن وزارة التربية تخلت عن توظيف 9000 خريجة دبلوم كلية متوسطة؟ هل نظروا إلى تجمهر الخريجين غير المعينين في وزارة التربية والتعليم؟ هل اطلعوا على ما أوردته إدارة الدفاع المدني التي تفاجأت بالعدد الهائل الذي تقدم للتعيين على 700 وظيفة برتبة جندي بعد الإعلان عنها، والذي وصل إلى أكثر من 113 ألفا؟ إنه لمن المؤسف حقاً أن تصدر مثل هذه الحملات المضطربة من أناس يعتقدون أنهم يتحدثون باسم الدين الذي يسعى لخير الإنسان، لكن مواقفهم الفعلية تنم عن بون شاسع عن التعامل مع الواقع لا يبدو أنه يكترث كثيراً لمصلحة الوطن والمواطن بقدر ما يهمه بسط نفوذه على مفاصل المجتمع.
إلا أن هذه الحملة المضطربة أبانت في الوقت نفسه عن توجه ثقافي جديد لأفراد المجتمع من النساء والرجال الذين وقفوا بكل شفافية وجرأة لتوضيح رأيهم تجاه عمل المرأة في الأماكن العامة. ويكفي أن أنقل ما قالته بعض الشابات في استفتاء حول عمل المرأة في المتاجر لنتبين هذا الواقع.
تقول إحدى الشابات إنها مؤيدة للفكرة وتشعر أنه ليس من حق أحد أن يقيم جدلاً حول الموضوع طالما أنهم خارج إطاره، وأن المسألة هي خوف من الجديد لا أكثر. وتقول شابة أخرى: أنا مؤيدة لعمل الفتاة كاشيرة، لأني أؤيد توسيع مجالات عمل المرأة، فالمرأة أصبحت مسؤولة عن العائلة ويأكل من رزقها أطفال جياع، وحتى لو كان عملها لأجل الاستقلال المادي فهذا حق من حقوقها خصوصاً إذا كان العمل لا يمس شرفها أو سمعتها. من يرفض هذه الفكرة فله الحق بعدم ممارستها لكن لا يحق له أن يطالب بمنع ما فيه باب رزق لغيره. وهذه فتاة أخرى تبدي دهشتها من الرأي القائل بعدم مناسبة هذه المهنة للفتيات وتساءلت قائلة: لماذا لا تليق؟ هل فيها ما يخدش حياء المرأة أو يمس شرفها أو عرضها أو سمعتها؟ نرى في كل يوم موظفات الاستقبال وصناديق المحاسبة في المستشفيات وهن يعملن باحترامهن وبحجابهن، فما الفرق بينها وبين السوبر ماركت؟. وهذه شابة أخرى تقول: الجدل متوقع حيال أي جديد يقتحم مجتمعنا الذي يرفض التغيير بالمجمل دون تمحيص وإن كان بحاجة للتغيير أكثر من غيره، فما بالك إن كان الأمر يتعلق بأكثر الموضوعات لغطاً والقضايا جدلاً الاختلاط!. و أخيراً أسوق هذا الرأي المتزن لشابة أخرى: أؤيد الفكرة لأن المرأة إنسان مكلف كالرجل تماماً، ذات مسؤولية وإرادة في هذه الحياة، تعاقب لتركها ما أمر به الله وتجازى لامتثالها أوامره، فلم ينظر لها بدونية كمخلوق عاجز لا حول له ولا قوة؟ إن مثل هذه النظرة كفيلة بصناعة امرأة هشة عرضة لأي تأثيرات سلبية متزعزعة في قراراتها. واليوم نحن نعيش زمناً تحتاج فيه نساؤنا أن يكنّ أكثر ثقة بأنفسهن وثباتا في قراراتهن، أما الاختلاط في العمل فلا أعرف له تحريماً بالمجمل. ما أعرفه أن الدين الإسلامي ومثله باقي الأديان السماوية تركز على التعاملات، فأنزل لنا تشريعات رائعة تنظم علاقاتنا الإنسانية عموماً وعلاقة المرأة بالرجل بصفة خاصة.
إن عمل المرأة في المراكز التجارية أو الشركات العامة لا يدخل، كما يدرك أي لبيب، تحت باب الخلوة غير الشرعية التي ذكرها الفقهاء، حيث إن هذا العمل يقوم في مكان مفتوح يتواجد فيه العشرات والمئات طوال اليوم. كما أن القضية أصلاً منوطة بولي الأمر حيث أصدرت القيادة الترخيص لتوظيف النساء في هذه المتاجر، والنساء الراغبات والمحتاجات لهذه الوظيفة موجودات وبكثرة. وهذه الخطوة هي تجربة لتوظيف المرأة وإتاحة الفرصة لها للعمل في وظائف جديدة تتوافق مع أنظمة وزارة العمل السعودية. وفي الواقع فإن فتح الباب للمرأة للعمل كمحاسبة في مثل هذه المتاجر والمجمعات الكبيرة سوف يتيح لمئات الآلاف من العاطلات عن العمل إمكانية العمل الشريف وتلبية احتياجاتهن واحتياجات أسرهن من عائده المشروع، كما يسهم في حمايتهن من ذل الحاجة ومساربها الأخرى غير المحمودة العواقب.
أننا ونحن نجابه البطالة الشديدة لا ينبغي لنا أن نعطي بالاً للآراء المتشددة المتلبسة لباس الدين والتي يتم رفعها إلى مقام الفتوى وإلباسها القدسية وهي مجرد رأي يؤخذ منه ويرد عليه. كما لا ينبغي للمجتمع وهو يكافح من أجل الخروج من أزماته و يسعى إلى عمارة الأرض بالخير والحق والمباح أن يستسلم لأدوات التخويف والترهيب تجاه من يقدم على التجديد والإبداع غير المألوف. إن المسؤولية الاجتماعية على رجال الأعمال في المؤسسات الوطنية تقتضي أن يستشعروا أهمية ما يقومون به في بناء وطن خالٍ من البطالة. ونأمل أن يدعم هذا التوجه بتوظيف النساء في متاجر أخرى دون تردد.