50 نصا سرديا تحدث المفارقة عن 'أدب السجون'
من يقرأ كتاب سجنيات للكاتب الليبي عمر أبو القاسم الككلي (دار الفرجاني، ليبيا ـ 2012) سيجد مفارقة عن معهود قراءته في أدب السجون العامرة بالزفرات والمثقلة بالعذابات الجسدية والمعنوية؛ عبر إنزال العقوبات والأذى والإذلال وانتهاك الكرامة والحط من إنسانية السجين بتحويله مجرد رقم للنداء والإحصاء والاستدعاء؛ نزع الإرادة وتحطيم الحياة. هنا، مع هذا الكتاب، نلفي أنفسنا إزاء كتابة مختلفة ومغايرة لتجربة امتدت تسع سنوات في عقد ثمانينيات القرن الماضي، وجرى التعبير عنها بعد أكثر من عشرين عاماً، وقد تمّ تقطيرها على مدار يقرب من العقد (2001 ـ 2008)، وكأنما في هذا التقطير استصفاء لجوهر التجربة واستخلاص لكنهها وحقيقتها التي تعني المقاومة والاحتفاظ بالرأس مرفوعةً أمام الجلاد، والاحتفاظ بجذوة الحياة مستعرة وناجية وقابلة للاشتعال رغم الزنزانة وسوط السجان. تحضرني في هذا الوارد جملة شعرية نافذة ودالة للشاعر اليمني فتحي أبو النصر لنا أن نتشبث برحابة القيود كأنها أقفاص تحلق.
يتألف الكتاب من نحو خمسين نصا سرديا في سبع وسبعين صفحة فقط.. نصوص قصيرة ممتلئة ريانة تقف عند الإنسان؛ عند الحياة. تقف عند الأغنية التي تعلو على الأسوار وتعقد صلَتها بالحياة. الجسد الذي يعاند والروح التي تكبر مع رفقة القيد وظلام السجن. لا نعثر على مرافعات سياسية ولا على أسباب تفصيلية ولا على وجدانات تلهج بالحريّة. هي كتابة تنهل من التجربة بسيطها وهامشها، يغمرها في السخرية والضحك، ويمنحها تلوينا ضاجا بالمفارقات؛ استطاعَ عمر الككلي أن يقبض عليها بفنية ومهارة ودُربة، وبفضل الانتباه وشحذ الحواس التي لا تفوتها شاردة ولا واردة. نَهَمٌ لالتقاط التفاصيل ويقظة لما يعبر فيثبته لوحةً وروحا وخلاصة تؤوب إليها جميع النصوص، التي اختزلها النص الأول بشكل فاتن، وعنوانه اللحم والأسمنت: (داوم الرجل على الوقوف، معتمدا بمرفقه على قاعدة النافذة متشاغلا بمتابعة زملائه وهم يتحركون ويتوزعون في ساحة القسم، عدة ساعات يوميا تقريبا، مدة عشر سنوات. نشأ، على مرفقه، شيء يشبه الكلكل، وتكونت، في موضع ضغط المرفق على القاعدة الأسمنتية للنافذة، حفرة صغيرة).
.. يكشف هذ النص القصير المتقشف والمكثف، وبشكل شعري، عن التعالي والتجاوز والصلابة والتأثير الممتد الذي يحول المعادلة ويقلبها في وجه السلطة المتعسفة وأدواتها المستخدمة للتدجين وتبليع الإهانة والامتهان؛ غصة بعد غصة. يرتفع السجين عن المشهد برمته، ينسحب مع نظرته المتشاغلة التي لا تحدق إلا بقدر ما تنصرف وتبني وتدعم العصب من الداخل؛ تتماسك الروح فيثبت الجسد.. يعلو ويمتص لحمه الأسمنت، يسيله في البناء الداخلي لينعكس في الخارج.. يسيله في العروق؛ في صورة الجسد الذي يشتد منه المرفق مكتسبا نتوءا بارزا يشهد على استمرارية في المقاومة، ويفتح مسارا طويلا وعريضا من أجل التحمل، وفي الآونة ذاتها يقوم الجسد بتسجيل حضوره وتأثيره وأثره الذي لا يمحى، عندما تستجيب قاعدة النافذة الأسمنتية، وإنْ على نحو ضئيل، بتجويف صغير صنعه الارتفاق اليومي المثابر. تنافذ ما بين اللحم والأسمنت. عبور، وإن يكن ضيقا، إلا أنه في الختام يحقق الخروج ويذكر بحياة تنتظر، تبزغ من الحفرة، حيث يصنع المرء الحفرة التي تمكنه من البقاء حيا بحسب كارلوس ليسكانو في الكاتب والآخر. في اللحم والأسمنت مجاز شاهق الجمال تدبرته بضعة سطور شديدة التكثيف غزيرة الدلالة.
.. وما يلفت في هذه التجربة تخطيها مرارة السجن وعذابه، وقفزها على حقول ألغام منسية تحت الجلد، عرف الكاتب كيف يبطل تأثيرها فيقوض السجن ويحطم قضبانه ويحيله إلى دعابة حال شبح كانترفيل؛ رائعة أوسكار وايلد. ليس ذلك وحسب، فقد خرجت الكتابة من مألوفية أدب السجن ـ كما ذكرنا ـ وتكراريته باجتراح شكلي وأسلوبي بما يفيد بـانتصار في ساحة هذا الأدب. كما حققت هذه الطريقة خروجا على زمن السجن الراكد الرتيب إلى فضاء محتدم متكثر يكسر هذا الزمن ويفتت جهامته بسخرية متتابعة لا تنضب وبمحكيات صغيرة متوالية تنقب جدار السجن وتجعله أُلهيةً. ما يفعله الككلي في سجنيّات صناعة عالم متجدد قبالة عالم السجن الآسن الذي يعيد تركيبه بما ينسفه ويدحضه. يكشط كدره فلا يعود إلا ممرا ومحطة تشحن الروح بالوقود في طريق اسمه الحياة.. أراد السجانون سدَّه فانتصبت في وجوههم أغصان تقول بامتلاء العروق بالحياة وبصوابها الذي لا يعتقل ولا يردمه ظلام.
* كاتب سعودي