لا بديل عن هذا 'الكوكب الأزرق'، لا يمكن أن نبقى جامدين كأننا خارجه، ولا يصلح حاله إذا ما بقينا كأنما نزوره من وقت لآخر. ولنكون جزءاً من عالمنا يفترض أن نشارك في صنع حضارته
ما أجمل الكوكب الأزرق! ماذا لو أننا كنا نعيش خارجه؟ عصي على الخيال تصور ذلك، أظن أن الأمر سيكون مختلفاً جداً عمّا إذا كنا داخله، وربما هكذا شعر بهذا روّاد الفضاء؛ فالموغل في أعالي الفضاء يرقب جمال هذا الكوكب الذي يكتسي جلّه بالزرقة كأنما اشتق من السماء، لولا صفحة الماء الضخمة الغالبة على يابسته.
فعلياً، نحن لا نعيش على الكوكب الأزرق. ربما نزوره لفترات محدودة لكننا لا ننخرط فيه بحياة كاملة، وإذا ما زرناه فإننا نشعر أنْ لسنا طبيعيين لأننا طبيعيون، حيث ينسى الكثير منا مخاوفه وأوهامه، ويستطيع أن يكون قادراً على التواصل مع مجمل ثنائيات ومكونات هذا الكوكب.
وفي هذا الوقت الذي يزور البعض الكوكب الأزرق، يشعر ألاّ حاجة لذاك الذي وظيفته الإمساك باليد أثناء عبور الطريق، حتى لو كان العابر يعرف الطريق ويراه جيداً، لا يمكن له أن يعبر دون مرافقة ذاك وظيفته عرقلة العابرين.
وهنا لا يبدو الإنسان جزءاً من هذا الكوكب ما لم يشعر بمختلف كائناته، أنه الشقيق لها وأنها له الشقائق، ولذا فالهجرة إلى الكوكب الأزرق تعني العيش في خضم مكوناته المجتمعية والطبيعية، واستيعاب أنظمته وتناقضاته، واستلهام الحكمة من وجوده بصناعة أثر الإنسان فيه.
أحياناً تكون الضرورات أمراً واقعاً، ولا يمكن للإنسان تجاهلها، فما إن يهاجر إلى بلد ما حتى يمكنه أن يعيش - على مضض - وحيداً منعزلاً، لكن ربما يعيش ويموت دون أن يكون له أثر، وربما أي ذكْر.
لا تسير حياة الإنسان على نمط واحد مهما حاول، فلا بد من التغيرات والتموّجات، وكذلك كائنات الكوكب الأزرق لا تستقر على حال، بعضها تتكيف وتطور نمط حياتها، وبعضها تظل على حالها، والقليل لا يستطيع تحمّل موجة التغيرات فتنقرض بموت آخر كائن من سلالتها، وكذا الأمر بالنسبة للإنسان، فثمة منقرضون في الأرض.
لا يكفي أن نزور هذا الكوكب الجميل الأزرق أو أن ننظر إليه من علو، لا بد نستقر فيه ونشعر بوجودنا عليه، فالمحك الحقيقي هو ممارسة الحياة على كوكب الأرض لا مجرد التفكير فيه كفراغ، إذ من المنطقي ألا ننسى تجارب الذين تركوا لنا حضارات في مختلف اتجاهات كوكبنا، دون أن نعرف أسماءهم؛ ذلك أنهم كانوا يعيشون مجموعات بشرية مكملة لبعضها، فكانت تجاربهم الحية تجسيداً للبناء مثل مختلف الكائنات التي تتكاثر وتبني وتستمر في البناء، تخفق فيه ثم تنجح، رغم سمات الخلاف والصراع داخلها وخارجها.
تسارعت وتيرة الحضارة خلال ثلاثة قرون ماضية فقط؛ ومما جعل الإنسان يصل سريعاً إلى مرحلة كان الواقع الحالي فيها أحلاماً، تلك الحالة الغريبة في البحث عن الحقيقة - أو ربما المجهول - وانهماك الإنسان في هذه الحالة بالروح والعقل والجسد، ولم تكن هذه الحالة خاصة بالذكورة أو الأنوثة، ولا بالليل والنهار، بل هي حالة عامة أصبح الإنسان ومستقبله هاجساً بالنسبة للإنسان.
لا بديل عن هذا الكوكب الأزرق، لا يمكن أن نبقى جامدين كأننا خارجه، ولا يصلح حاله إذا ما بقينا كأنما نزوره من وقت لآخر. ولنكون جزءاً من عالمنا يفترض أن نشارك في صنع حضارته وتكريس بصمة الإنسان فيه، فمن أجمل اللحظات تلك التي نشاهد كوكبنا اللازوردي من أعالي الفضاء تشرق عليه شمس الصباح بآلة صنعها الإنسان وحقق بها أحلاماً وآمالاً امتدت لملايين السنين الماضية.