المعرفة ليست حكرا على أحد، أما الملكية الفكرية فهي حكر لأصحابها. وبالتالي فالتاريخ يمكن أن يسرق، إذا ما كان أرباب أرضه غير مبالين بمن يسطو عليه، وهو ما كان مع 'ريادة' مسرحنا العربي
لم تعد الهجمات والحروب والاستلاب على الأرض فقط! بل تطور الأمر إلى المياه والأنهار، ثم الأكثر خطورة هو السطو على الرؤوس، السطو على التاريخ، السطو على الثقافة والمعرفة.
والمعرفة ليست حكرا على أحد، وإنما الملكية الفكرية هي ما لا تكون حكرا إلا لأصحابها. وبالتالي فالتاريخ يمكن أن يسرق، إذا ما كان أرباب أرضه غير مبالين بمن يحترش به أو يسطو عليه. فكما يقول فوزي فهمي في مسرحيته لعبة السلطان: لا تسقط القلعة المحاصرة لكثرة المحاصِرين لها، ولكن تسقط حين يتساءل حماتها عن جدوى حمايتها.
في مهرجان المسرح العربي بالشارقة ـ وفي المؤتمر الفكري يوم الاثنين 13/ 1/ 2014 بعنوان (مناظرة في سبيل ريادة المسرح العربي) ـ يكشف لنا الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل في بحثة (ريادة المسرح العربي لمن تكون) عن كارثة كبيرة إن تحققت. وهي السطو اليهودي على الريادة المسرحية في الوطن العربي.
من المعروف بكل الوثائق العلمية، أن المسرح وفد إلى الوطن العربي عام 1847 على يد الرائد المسرحي مارون النقاش، وأن أول مسرحية عربية تعرض على المسرح في الوطن العربي هي مسرحية البخيل لمارون النقاش، مأخوذة بتصرف عن مسرحية البخيل لموليير. يقول سيد علي: عرف العالم العربي أن مارون النقاش هو رائد المسرح العربي!، ولكن في عام 1990 نازعه آخر في هذه الريادة من خلال خبر نشرته الصحف مرتين: الأولى في جريدة (الشرق الأوسط) بتاريخ 25/ 3/ 1990 ()، والأخرى في جريدة (الحياة) - عدد 142 – بتاريخ 17/10/1994 – تحت عنوان (نزهة المشتاق في أدنبرة: اكتشاف مسرحية عربية قديمة)، قالت فيه: صرّح الباحث الجامعي البريطاني فيليب سادجروف، وهو أستاذ محاضر في جامعة أدنبرة أسكوتلندا، أنه عثر أخيرا في مكتبة اللغات الشرقية التابعة للمدينة، على نسخة نادرة من مسرحية مجهولة حتى الآن، يعتقد أنها أقدم نص مسرحي عربي معروف. تحمل المسرحية عنوان (نزهة المشتاق وغصّة العشاق)، وهي من تأليف كاتب مغمور يدعى إبراهيم دانينوس. ويعود تاريخ النسخة التي عثر عليها الباحث البريطاني إلى العام 1847، أي أنها سابقة لمسرحية مارون النقاش الشهيرة (البخيل)، المقتبسة بتصرف شديد عن موليير، التي قدمت في بيروت عام 1848.
ثم يقول الباحث: بعد عامين من نشر الخبر السابق، وتحديدا في عام 1996 أصدرت جامعة مانشستر في إنجلترا كتابا ضخما باللغتين الإنجليزية والعربية؛ عنوانه على القسم العربي (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية في القرن التاسع عشر)
ومن هنا يبدأ الدكتور سيد على في تحليليه وتفسيره لكل الوثائق التي وصلت لديه، وبكشل أكاديمي إبداعي يتقي هذا الباحث - المهموم بهموم البحث العلمي الذي لا يعرف تمييزا ولا عرقية بقدر ما يهمه ما تربى عليه ويربي عليه أجيالا من الأمانة العلمية - كل ميل فيما قرأناه.
ومن أشد ما صدمني في بحثه هذا، أنه توصل إلى أن المحققين هم من وضع اسم المؤلف، ووضعوا تاريخه أيضا على هذا النص، ثم أعلنوا للعالم أجمع على أن الريادة للمسرح العربي يهودية (السحنة). فيقول في هذا الصدد: (والدليل على ذلك أن المحققين – شموئيل وسادجروف – نشرا في مقدمة كتابهما صفحة كاملة بعنوان (مفتاح الرموز)، قاما فيها بشرح كل رمز تم استخدامه في عملية التحقيق! وما يهمنا من هذه الرموز: الرمز [...]، وشرحه كما هو معروف في الأبحاث العلمية، وكما جاء في صفحة مفتاح الرموز: القوسان المربعان يدلان على أن ما جاء بينهما هو من إضافة المحققَين.
أي أن جميع المعلومات الموجودة بين هذين القوسين [...]، قام بوضعها المحققان: شموئيل وسادجروف، وبناء على ذلك أقول معلقا: غريب أن نكتشف أن كلمة (تأليف) غير موجودة في الأصل، ووضعها المحققان بخط يدهما!! والأغرب أن اسم المؤلف (أبراهام دانينوس) غير موجود على الغلاف، وتطوع المحققان بكتابته!! وعجيب أن نعرف أن وظيفة المؤلف بوصفه مترجما في محكمة الجزائر غير منصوص عليها في الأصل، فقام المحققان بإقحامها!! أما أعجوبة العجائب فكانت سنة التأليف أو النشر (1847)، التي ابتكرها المحققان دون أي سند أو توثيق أو دليل!! وحتى يقنع المحققان قُراءهما بهذا التاريخ – الذي يُعدّ أساس القول بريادة دانينوس - كتبا كلمة (حوالي)!! حتى يتوهم القارئ بأنها تعود على كلمة التأليف، فيفهم بأن المسرحية تم تأليفها حوالي سنة 1847!! وربما البعض فهم أن (حوالي) تعود على عمل دانينوس مترجما في المحكمة، وهو الأقرب إلى الصواب، كما سنرى!! وبالرغم من ذلك، فهناك دليل أقوى على أن المحققين لا يملكان أي سند لتاريخ كتابة أو نشر هذه المسرحية، وهو اعترافهما في كتابهما، قائلين: إن هذه المسرحية طُبعت في المطبعة الحجرية، دون ذكر لمكان النشر، أو تاريخ النشر).
ثم يسوق الباحث تقصياته حول جنسية المؤلف - الذي يؤكد أنه فرنسي حسب قوله - وحول وظيفته وتنقله وعن عائلته وكل ما يلزم باحثا يريد التحقق والتقصي مصحوبة بوثائق مصورة وخطية حتى يصل إلى نتيجة.
في الحقيقة، نحن أمام أمر مهم للغاية يمس تاريخ ريادة المسرح في وطننا العربي بشكل ممنهج وموثق في الإعلام الخارجي والداخلي، إلا أنها تظل هناك هنَّة تضعف هذا البحث، وهي أن الباحث لم يستطع الوصول إلى النص الأصلي، إلى درجة أنه حصل على إقرار من (جون شارل كولون Jean-Charles Coulon) مسؤول قسم المجموعة العربية في مكتبة المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في بعدم وجود – (نزاهة المشتاق وغصة العشاق) لأبراهام دانينوس المطبوعة حجريا، والمشتملة على إهداء المؤلف ضمن محفوظات مكتبة المعهد.
تفاصيل كثيرة في البحث الذي يقع في 24 صفحة لا يحتمل المقال نشرها، إلا أنه يبدو لنا أننا أمام تزييف الوعي والتاريخ إن صح هذا الكشف وإن وصح بحث سيد علي. ومما يضعف موقفه هو عدم وصوله للنص الأصلي. فلماذا لا تهتم به الدولة وتوفر له فريق عمل وتنقلات، ليذهب ويأتي لنا بالخبر اليقين، لأنه باحث كبير وله قدرة في هذا المجال ومعطياته وتحليلاته تحمل الكثير من الخطر الداهم بأمن ثقافتنا ومحاولة تغريب تاريخها.