أحداث شارع الرشيد 'الدامية' تغيب لقاءات الشعراء والأدباء
بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 توفرت الفرصة لمن كان مقيما بالخارج من أدباء وفنانين وشخصيات عامة زيارة وطنهم بعد سنوات طويلة قضوها في المنافي مجبرين. وكان شارع الرشيد وسط العاصمة بغداد محطتهم الأولى، لأن معظمهم تركوه مزدهرا يعكس المظاهر المدنية العراقية، لما كان يضم من دور سينما، ومكتبات ومحال تجارية فضلا عن أشهر المقاهي مثل البرازيليا التي كانت ملتقى شعراء العراق بدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري، وغيرهم من رواد حركة الشعر الحر فضلا عن تشكيليين وموسيقيين ومسرحيين.
الأديب والإعلامي زهير الجزائري، أعرب عن خيبة أمله عندما اطلع على الواقع الحالي للشارع وتحوله إلى تجمع للعصابات ومكب للنفايات، ومكان تجمع الكلاب السائبة، وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على تلك الصورة الكئيبة للشارع، لم تمتد له يد الرعاية من الجهات المعنية لإعادة أحيائه وتجديد نشاطه السابق، ولا سيما أنه كان يضم متحفا لعرض مقتنيات العائلة المالكة، وأبنية تراثية تعطي ملامح الهوية المعمارية للعاصمة بغداد.
طريق الحاكم العثماني
تشير المصادر التاريخية إلى أن شارع الرشيد كان يعرف في زمن العهد العثماني باسم خليل باشا جاده سي نسبة لحاكم بغداد خليل باشا، الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعاً باسمه عام 1910، وتم فتح الشارع لأسباب حربية ولتسهيل حركة الجيش العثماني وعرباته، وفي منتصف العشرينيات من القرن الماضي وبعد تأسيس الدولة العراقية تم تعبيد الشارع وتوسع بمحاله التجارية والمقاهي.
واكتسب الشارع أهميته بوصفه شاهدا على عدد من الأحداث السياسية، وفي هذا السياق قال الباحث المتخصص بتاريخ بغداد رفعت مرهون الصفار: شارع الرشيد، ظل منذ افتتاحه معلما أساسيا من معالم بغداد، فشهد عشرات التظاهرات التي كانت تنطلق من جامع الحيدرخانة، وفيه سقط الشهداء ومنهم جعفر شقيق الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري. واكتسب الشارع أهميته كونه يمتد من منطقة الباب المعظم الباب الشرقي وسط العاصمة العراقية بغداد من خلال تراثه الذي يمثل تاريخها، فقد شق طريقه بين أهم الأماكن التراثية، سالكا طريق المساجد والجوامع، والأسواق الكبيرة، مارًّا بأهم المقاهي والحوانيت، محتضناً أهم الصناعات والمهن والحرف الشعبية المنتشرة فيه بمحال متزاحمة على امتداده، فقدت روادها هذه الأيام نتيجة الإهمال الذي طال المنطقة.
بجوار نهر دجلة
يمتد الشارع بمحاذاة نهر دجلة من جهة الرصافة، وعلى جانبيه تقع أسواق الصفاير وبيع المقتنيات القديمة، ومن يسلك الشارع من منطقة الباب المعظم متجها إلى الباب الشرقي يصادفه تمثال الشاعر العراقي معروف الرصافي، ومقابله يقع المتحف البغدادي، الذي كان يقيم حفلات غنائية تعرف باسم الجالغي البغدادي، لمطربي المقامات. وعلى الجانب الأيسر سوق باب الأغار، وفي الجهة المقابلة تقع مدرسة المستنصرية المحافظة على بنايتها منذ العصر العباسي، وشارعها يؤدي لسوق النهر، حيث تقع محال الصاغة، ومحال الأزياء في شارع النهر، تقصده النساء البغداديات للتعرف على آخر صرخات الموضة، وبقرب خان مرجان ببنايته القديمة توجد عشرات المصارف ومنها بناية البنك المركزي، وبفضل القادمين من جانب الكرخ استخدام الزوارق المعروفة باسم البلم باللهجة البغدادية لعبور نهر دجلة للوصول إلى شارع الرشيد، الذي كان قبل سنوات يحتفظ بصورته السابقة، لكنه اليوم فقد جميع مظاهره. وبعد ساعات الظهيره وحينما يترك العاملون محالهم يتحول الشارع لمكان مقفر يستحق الرثاء.
مربعة المصريين
في الشارع تقع منطقة المربعة وخلفها شارع سلطان علي، وفيه محال تصليح ومضخات المياه من نوع الديزل. وكانت تلك المنطقة مكان سكن المصريين الذين جاؤوا للعراق مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. وأضافوا للمنطقة سمة مصرية بافتتاح عشرات المطاعم وتقديم وجبات الفول المدمس وغيرها، وكان الكثير من العراقيين يقصدون المربعة لشرب النارجيلة في مقاهيها وللاستمتاع بقفشات أشقائهم المصريين ونكاتهم اللاذعة. ولكثرة أعداد المصريين في ذلك الوقت واندماجهم في المجتمع عرفت المنطقة بمربعة المصريين، وما تبقى منهم اليوم انتقل لأحياء أخرى بعد رحيل أكثرهم مطلع التسعينيات.
حكاية الرقم 4
من المفارقات المعروفة عن الشارع ملازمته الرقم 4 فطوله يبلغ أربعة كيلومترات، وفيه أربعة جسور تربط جانبي الكرخ والرصافة، ويضم أربعة جوامع كبيرة، وأربعة مسارح، ومثلها دور سينما، وحافلة نقل الركاب من منطقة الميدان إلى ساحة النصر في شارع السعدون تحمل ذات الرقم، وأبرز معالمه الحالية سوق الشورجة وشارع المتنبي، ويعد من أضخم وأشهر أسواق بيع الكتب الجديدة والمستعملة ولا يكاد يضاهيه سوق في العالم. ثم المتحف البغدادي الذي يعرض موروث التراث الشعبي، وأخيراً مقهى أم كلثوم الذي يحتوي أقدم ألبومات كوكب الشرق وأندر صورها ويؤمه عشاق الغناء القديم من كل أرجاء العراق.
الشانزليزيه البغدادي
يرى الكثير من البغداديين أن شارع الرشيد يضاهي شهرة الشانزليزيه في باريس، فاسمه ارتبط بالخليفة هارون الرشيد، ولقدمه واحتفاظه بالطراز العمراني القديم جعله من أبرز معالمها التراثية والحضارية. ويعج الشارع اليوم بسيل من الفوضى فالعربات تتنقل بكل حرية ولم تفتح دكاكين عطارة وفواكه فيه فحسب، بل فتحت محال لتصليح السيارات وباعة الخردة ولافتات الدعايات المتعددة، وضاعت نظافته وانبعثت روائح كريهة من النفايات المتروكة قرب سوق الشورجة وقرب ساحة التحرير، وتأثر كثيرا بالوضع الأمني المتدهور الذي تعيشه البلاد وقطعت الكتل الخرسانية أوصاله، وأصبح التنقل أمرا مزعجا إضافة إلى الانفجارات التي تحدث فيه من وقت لآخر.
الناشط المدني والإعلامي يوسف المحمداوي، دعا الجهات الرسمية ومنها أمانة بغداد إلى بذل جهودها لرعاية الشارع وإنقاذه من وضعه المزري.
وقال: شارع الرشيد ذاكرة حية في طريقها إلى الانطفاء ولا بد من انتشاله من الحالة المزرية التي يعيشها الآن، والعمل على تشكيل لجنة وطنية لإنقاذ هذا المعلم البغدادي الأصيل، لجنة على مستوى عالٍ وبصلاحيات واسعة مدعومة بأموال كافية للنهوض بواقعه بعدما أصابه الدمار وعطلت نشاطاته وأصبح مهجورا تنشر فيه النفايات
من جانبها، أعلنت أمانة بغداد عن مشروع ترميم وتطوير شارع الرشيد بعد أن وضعت الدراسات اللازمة، مؤكدة جديتها في إكمال المشروع، وتجاوز العقبات الفنية والمالية، التي حالت دون تنفيذه خلال الفترة السابقة. أما مديرية التراث في وزارة السياحة والآثار فاختارت المنطقة المحصورة بين شارع المتنبي والميدان لتنفيذ التطوير كونها تضم مباني تراثية مهمة، وشرعت بالفعل في تشكيل لجان الترميم التي تواصل عملها حاليا لتحويل تلك المباني والبيوت التراثية إلى متاحف.