معظم اليمنيين تقودهم ضائقات الحياة وكوارث الأداء الحكومي نحو ثورة طافحة بالألم، لكنهم اكتووا بدرس 'الإخوان المسلمون' وفضلوا التريث لبعض الوقت احتراساً من الوقوع مجدداً ضحايا طرف قريب الشبه بهم إن لم يكن أسوأ منهم
لم يمض على الأحزاب السياسية التي استقوت بالمزاج الشعبي ضد الحاكم القديم غير عامين، وإذا هي في محاذاة التراب تلعق من نفس الجرح وتتلوى من المرارة والألم.
وفي تقديرنا، لم يكن النظام السابق عادلاً لتنصفه الأقدار من المتدرعين بزعم الخصومة معه ولا مستبداً وحيداً لتقسو عليه منفرداً.. وما تشهده الساحة اليمنية اليوم وسيتكرر غداً – كما أراهن – لا يعدو توالي انفراط وتناثر سبحة واحدة انتظمتها حقبة الرئيس السابق بمدارسها العصبوية وأكاديمياتها الانقسامية وموسوعاتها التراجيدية الباذخة الثراء.. ثراء في النوعية وثراء في معارف التمثيل وثراء في مقاصد المفاسد ووجهاتها وتعدد خلفياتها وتنوع مصادر تمويلها.
أجل تناثرت سبحة النظام السابق وتبارى فرقاء الصراع على التقاط كلُ قدر حاجته من حبيباتها لنغدو وفي متناول كل طرف سبحته الخاصة! وكما دلّ الأثر على المسير...؟ أفصحت مختبرات الواقع أن خاصية المصبات المتفرعة لا تلغي حقيقة انحدارها من المنبع ذاته، وإن كان هذا الأخير يؤدي إلى الإصابة بالعاهات المستديمة لكنه أقل نسبة من السميات القاتلة.
انشطار الجينات لا يولد عينات مأمونة والساحات التي أضمرت مخاتلاتها بزواج فرند، حسب نظرية شيخ الجهاديين الزنداني حين تعاضدت جماعات السلاح الإخواني والحوثي والقبلي في معركة إسقاط الحليف التاريخي السابق وملء المواقع المؤدية إلى مخرجات عقله السياسي المتربص؛ ولهذا لم تفعل أحزاب المشترك شيئاً غير تدوير المعضلات وفي أفضل التوقعات ترحيلها.
يوم يتعذر شركاء الظفر في مشترك (الوفاق) بالنظام السابق ويلمحون إلى مسؤوليته عن إعاقة توجهاتهم تجاه اليمن الحديث فليس من مقصد لذلك غير الإشارة إلى ما عجزت أيديهم عن بلوغه على حساب المؤتمر الشعبي العام وحصته من صفقات الفساد، على غرار النزاع القائم داخل الحكومة حول صفقة الفساد الكبرى بين صاحب المقولة الذائعة الصيت (الفساد ملح التنمية!) وشركة توتال الفرنسية.
عامان من الدأب والنضال اليومي الشاق بذلهما المكون الرئيس لحكومة الوفاق (أحزاب اللقاء المشترك) في سبيل الانتقام للنظام القديم والهزؤ من الشباب الثائر والمتعثر بـبروبجندا الأحزاب التاريخية المتناوبة على حمل الشعار الديني واستعراضه في بورصة السياسة وتقلباتها المنتنة.
الأسبوع الفائت لاحت بوادر احتجاجات تستهلك دماء الشهداء وقوداً لمناشطها المنادية بإسقاط الحكومة ومحاسبتها إلى جانب مطالب أخرى تنم عن قصور معيب في الوعي، يتوعد بإلغاء النصوص الدستورية والقانونية المشرعنة للفساد والمحصنة للفاسدين؛ مع أن الدستور يؤخذ بالإجمال والطريقة الثورية لا تتعاطى مع العقد الاجتماعي بالتجزئة، وقواعد تعليق الدستور معلومة بأطوارها الاعتيادية أو الاستثنائية الثورية؛ بيد أن هذه البوادر لم تدفع الحكومة لتقديم استقالتها – مثلما كان هذا دأبها في أحداث عديدة يندى لها وجه الثعلب – قدر جنوح نصفها الوفاقي المعبر عن أحزاب المشترك إلى استدعاء الخبرات الإخوانية الممتدة من رابعة مصر إلى حشود الجمع اليمنية؛ للخروج المتزامن مع المسيرات المناهضة للحكومة في رسالة مزدوجة جانب منها للرئيس عبدربه هادي للتحذير من إصدار قرارات تتجاوز سقف مصالح الإصلاح وقبائله، والجانب الآخر موجه لأبناء الشعب إذا لزمكم البكاء فسينوبكم رئيس الحكومة ومتى شاقتكم ساحات 11 فبراير 2011م فمن بوابة الشيخ ومجلسه الوطني وسراديب اللجنة التنظيمية ومنسقية الثورة وبمعنى أكثر وضوحاً.. للثورة عنوان وعنوانها جماعة الإخوان وهم في العادة يعدون الشرك والشراكة صنوين كلاهما من أعمال الشيطان؟؟
لا ريب أن معظم اليمنيين تقودهم ضائقات الحياة وكوارث الأداء الحكومي البائس نحو ثورة عارمة طافحة بالألم مثقلة بالمشاعر المكتئبة ولفح الوصاية الفائض، لكنهم اكتووا بدرس الإخوان المسلمين ويفضلون التريث لبعض الوقت احتراساً من الوقوع مجدداً ضحايا طرف قريب الشبه بهم إن لم يكن أسوأ منهم.
عموما.. كان هذا حظ اليمنيين في مختلف المحطات التاريخية التي انتهت إما إلى فرائس سهلة لمثالب التخلف أو إلى تحالفات مشبوهة بين نقائض الدولة. تتخللها اتهامات متبادلة تشي بأمراض التبعية ولا تعريها وتكشف الجرح ولا تطهره وتخلص الجهد لتضميده.
يمن الأحمرين!! ينزف فيتخثران ثراء وباروداً ونجع فساد.. فكيف لهذا البلد أن يسمى أحدهما سماً زعافاً والآخر أحمر شفاه؟
اليمن في لحظته الراهنة يستدعي وقفة موضوعية جادة من أشقائه وأصدقائه للتضامن معه باتجاه بناء الدولة وتمكين الرئيس هادي من أسباب ومقومات هذا البناء، وعدم الالتفات لمشاريع السلاح وأطراف الصراع المتنازعة على قضم ما تبقى لهادي من فرص للقيام بهذه المهمة الوطنية والقومية والإنسانية.
الأشقاء خاضوا تجربة التعامل مع هذا الطرف وذاك وبوسعهم تقويم التجربة بهدف الإفادة لا التكرار! وبهذا فقط تغدو اليمن واحة استقرار لليمنيين وعامل أمان ووئام لمحيطها الإقليمي الواسع.