عندما يزج بشاب مدني، في أتون حرب هوجاء، ودون أن يتدرج ويتدرب، بدنياً ونفسياً واحترافياً لخوض الحرب؛ تكون النتيجة أن يكون مصيره القتل أو التشويه الجسدي والنفسي، وإلا يتحول إلى قاتل متوحش
الإجابة عن السؤال أعلاه لن تكون تخمينية، وإنما هي يقينية مثبتة علميا وعلى أرض الواقع. من الغباء أن نسأل هذا السؤال الآن؛ ولكن كان يمكن أن يكون من حسن الفطنة أن نسأل هذا السؤال في بداية استنفار شبابنا وثرواتنا لأفغانستان في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، ولم نفعل ذلك؛ ولذا فقد حان الوقت لأن نسأله ونجيب عنه ولو من باب ما فات جله، لا يترك كله.
لقد تم استنفار شبابنا لأول مرة في الثمانينيات من القرن المنصرم، للقتال في أفغانستان، تحت راية الجهاد. لا شك بأنه ليس كل من شارك في استنفار شبابنا للقتال في أفغانستان، كانت نواياهم سيئة، بل منهم من كانت نواياهم سليمة، ولو من حيث المبدأ لا الفعل والنتيجة. وذلك نتيجة لحداثة التجربة والحماس الشديد حينها لنصرة الشعب الأفغاني أمام الغزو السوفيتي الغاشم. وكانت النتيجة كارثية، على من مات هناك أو أصيب بتشوهات جسدية أو نفسية؛ ناهيك عن أم الكوارث، عندما رجع جزء من شبابنا هناك، وهم يحملون معهم أجندات تكفيرية ومخططات انقلابية تدميرية عن طريق الإرهاب، تكفيراً وتفجيراً.
وقد عانت بلادنا ويلات الإجرام الإرهابي الذي أتانا بعد عودة شبابنا من ساحات القتال في أفغانستان؛ حيث سحقت البراءة في دواخلهم وغسلت أدمغتهم ودمرت نفسياتهم وشوهت عقائدهم وتحولوا إلى ذئاب بشرية، لا تعرف إلا القتل والتخريب والتدمير؛ وباسم ماذا؟ باسم أعز ما نملك ونفتخر به ونحمد الله عليه ليل نهار، وهو ديننا الإسلامي الحنيف. والسؤال كذلك هو ماذا حدث هناك، وحول شبابنا من حملان وديعة، كما ربيناهم، طوال أعمارنا وأعمارهم، إلى ذئاب مفترسة فاجرة، وبظرف أشهر أو سنوات قليلة؟!
الجواب يكمن في علم لم يخطر على بالنا وقل أن سمعنا به، وهو علم النفس العسكري. وماذا يخبرنا علم النفس العسكري عما حدث لشبابنا وأحالهم بطرفة عين من شباب يخجل أن تظهر وجوههم أمام عدسات تصوير وهم يعزفون على آلة موسيقية؛ إلى شباب يظهر كل وجهه وجسده ويفتخر ويزمجر مكبراً وهو يحمل رأس آدمي مقطوعا تتقاطر الدماء منه. علم النفس العسكري هو علم حديث، تأسس مع بداية الحروب الحديثة، المعقدة والمدمرة للإنسان والمكان؛ حيث العصر الحديث والذي حسن وسهل حياتنا المدنية وبنفس الوقت عقد الحرب وجعل هنالك فارقا شاسعا بين الحياة المدنية والحياة العسكرية؛ أي باعد بينهما وجعل الهوة بينهما شاسعة.
كانت الحياة قديماً حياة قاسية، فالشاب حينها كان يتحرك ضمن بيئة قاسية، في حله وترحاله، وكان سلاحه التقليدي لا يفارقه. وكانت الحرب حينها حربا غير معقدة كما هي حرب اليوم؛ حيث كانت تخاض بسلاح يدوي تقليدي كالسيف والرمح أو بعد ذلك بالبندقية البسيطة، وكانت لا تدوم الحرب (المعركة)، أكثر من يوم أو يومين أو ثلاثة، مع توقف القتال في الليل. أي لم يكن الفرق في شظف العيش والقسوة كبيرة أو تستحق الذكر بين الحياة المدنية القديمة والحروب.
وبعد ولوج الإنسان العصر الحديث، بسبب الثورات الصناعية والتقنية؛ أسهمت الآلة والتقنية في تسهيل وتيسير الحياة المدنية وبنفس القوت، تصعيب وتعسير الحياة العسكرية. إذ أصبح الإنسان المدني يعيش في بحبوحة من الرفاهية، مقارنة بما كان يعيش فيه أجداده. فوسائل النقل الحديثة ووسائل الرفاهية من تدفئة وتبريد وتأثيث مريح للمنزل والشارع، شبه عزلت الإنسان عن بيئته القاسية، والتي لا تزال هي بيئة الحرب. فالحرب الآن لا تزال تشن في نفس البيئة والظروف التي كانت تشن بها الحروب القديمة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، الآلة الحديثة والتقنية العصرية، جعلت من الحرب أكثر صعوبة وقسوة من ذي قبل؛ وذلك من ناحية كثافة النيران والقوة التدميرية للأسلحة الحديثة. والحرب أصبحت تخاض بالشهور والسنين وعلى مدى أربع وعشرين ساعة؛ وليس كما كانت تخاض المعارك قديماً بيوم أو يومين أو ثلاثة، مع توقف للقتال أثناء الليل. ولذلك فلم يكن موجود مصطلحي مدني وعسكري قديماً، وأصبحت اليوم موجودة ومتداولة.
وقبل مئة وخمسين سنة، قال الجنرال يوليوس قرانت، قائد القوات الفيدرالية الأميركية في الحرب الأهلية الأميركية مقولته الشهيرة: الحرب جهنم؛ ومن أرادها سنصليه بالكثير منها. وهذا قبل أن تتطور وتتعقد الحرب كما هي اليوم؛ أي كانت البندقية والمدفعية هما سلاحا الحرب حينها. ولذلك تم تأسيس وبناء الجيوش العسكرية المحترفة، والتي مهمتها الوحيدة هي شن الحروب وخوض غمارها. وعلى أساس هذه المهمة، تم تأسيس الكليات العسكرية، والتي مهمتها الرئيسية هي تحويل الشاب من مدني إلى عسكري. وذلك بتكثيف الضغوط النفسية والبدنية عليه، مع تدريبه على عملية الحزم والإقدام والانضباط، وكيفية استخدام الأسلحة الشخصية والميدانية، وتدريسه لأهم العلوم والنظريات العسكرية الحديثة.
وهنا بعد تخرج الشاب من الكلية العسكرية وتحويله من مدني إلى عسكري، ينخرط مباشرة في إحدى وحدات القوات المسلحة. ومع تكثيف التدريب له من خلال الدورات والمناورات العسكرية بالذخيرة الحية، يكون واعياً نفسياً وعملياً لمعنى الحياة العسكرية؛ حينها فقط يكون مستعدا لخوض الحرب الحديثة. ويعلم جيداً بأن مهمته هي القتال والدفاع عن وطنه أو مصالح وطنه في أي مكان، حتى خارج وطنه. ولذلك يكون العسكري المحترف مستعدا لتنفيذ مهماته القتالية، التي توكل إليه وعن دراية تامة لما سيواجهه في الحرب. والحرب بالنسبة للعسكري المحترف هي مهمة، ينفذها على أكمل وجه؛ وهو يتوق للعودة لبيته وحياته العسكرية سالماً غانماً، ويتدرج برتبه العسكرية والحياتية بشكل عام.
وعندما يزج بشاب مدني، ما زال يعيش حياته المدنية المترفة بين كنف والديه؛ في أتون حرب هوجاء؛ خاصة مثل الحروب الأهلية، ومن دون أن يتدرج ويتدرب لسنوات مكثفة ومضنية، بدنياً ونفسياً واحترافياً لخوض الحرب؛ تكون النتيجة بالنسبة له ولمن حوله كارثية، وحتى لمن يقاتل هو بصفه. فإما أن يكون مصيره القتل أو التشويه الجسدي والنفسي؛ وإلا يتحول إلى قاتل متوحش؛ مهمته الوحيدة هي القتل والتدمير والتقطيع والتخريب. أي يصبح قاتلا متوحشا، لا تقف عنده شهوة القتل وسعار التوحش، حتى بعد انتهاء الحرب. وعندها يتحول إلى قاتل مأجور يبحث عن أي موجه له؛ ليواصل شهوة القتل والتقطيع؛ تحت أي ذريعة كانت؛ سواء في وطنه أو في أي وطن كان؛ إلا من رحم ربي.
إن ما نسمعه اليوم من جدال حول من يذهبون من شبابنا للقتال في مواطن الحروب والفتن؛ مثل عبارات الجهاد، وأخذ رأي ولي الأمر أو الوالدين؛ هي من سفسطة القول وترهاته. إن من يردد مثل هذه المقولات؛ إما أنه يعيش خارج العصر ومعطياته وإما بأن لديه أجندات تخريبية. ولي الأمر لديه قوات مسلحة محترفة، إذا احتاجها حركها وليس بحاجة لأن يتوسل إلى مواطنيه لخوض الحروب بالنيابة عن جيشه وجيشهم، الذي صرف عليه المليارات تلو المليارات من قوات الشعب. فمن الأجدى بالعقلاء من أهل العلم، بأن يبحثوا عن مكان للجهاد، غير الحرب؛ وإلى تحول الجهاد إلى شبهة غير إنسانية.