بلادنا لا خطر عليها أكبر من خطرنا نحن عليها، ولن يستطيع أحد أن يصل إليها إلا من خلالنا ومن ثغرات تفرقنا وتضادنا، محبتنا وتسامحنا خير لنا وشر ووبال لعدونا والعكس صحيح
هل نعي نحن أفرادا وجماعات في هذا الوطن، أننا الآن نعيش في عصرٍ مختلفٍ متبدلٍ متلونٍ متناقضٍ خطير؟ وهل نعي نحن في هذا الوطن أفرادا وجماعات، ما هو الدور المنوط بنا ونحن على سفينة الوطن التي تبحر في أمواج عاتية متلاطمة للوصول بها إلى بحر الأمان؟ وهل نعي نحن أبناء هذا الوطن أفرادا وجماعات، أن الشعوب الواعية تختلف على الأساليب التي توصلهم إلى الأهداف التي يتفقون عليها جميعا؟ وهل نعي نحن أبناء هذا الوطن أفرادا وجماعات، أن الاختلاف على الأهداف كارثة نتيجتها الزج بنا وبوطننا إلى مواقع نكون فيها فريسة سهلة لأعدائنا الذين يتربصون بنا الدوائر؟ وهل نعي نحن أبناء هذا الوطن أفرادا وجماعات، أنه لا يمكن لعدونا النيل منا وإيقاع الهزيمة بنا إلا إذا نجح في اختراقنا عن طريق الحلقات الضعيفة فينا التي تتكون وتتشكل نتيجة خلافاتنا؟ وهل نعي نحن أبناء هذا الوطن أفرادا وجماعات، أن الاختلاف الذي تشهده ساحات وطننا الآن هو اختلاف تضاد خطير يؤدي في النهاية إلى استعانة فريق بفريق آخر من الأعداء ينصره ليتم بذلك الاختراق الذي ينشده عدونا؟
نحن لا نفهم على الإطلاق اختلاف التضاد الذي نشهده الآن والذي يزداد سعيره في مشهد واضح يتبدى فيه تجديف معاكس لكل فريق للسفينة التي تحمل كلا الفريقين، ونسأل هنا: إلى أين يريدون الإبحار؟ وهل حقا يعون تصرفاتهم ويعرفون إلى أين تكون نتائجها؟ أم أن الشياطين أعمتهم عن الحق ودروبه؟ وصف الله سبحانه القوم الذين يختلفون بأنهم قوم لا يعقلون تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون الحشر: 14.
نحن في هذه البلاد أعزنا الله بنعم كثيرة واختصنا عن سائر بلاد الأرض بخصوصيات لم توهب لغيرنا، فبلادنا موطن الحرمين الشريفين، وأرضنا منطلق الرسالة، والعالم الإسلامي بملياريه من السكان يتجهون لبلادنا خمس مرات يوميا في صلواتهم، وأغدق الله علينا من خيرات الأرض ما الله به عليم، هذه نعم، ولا نريد أن ينطبق علينا قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ الحشر آيه 2.
إن اختلاف التضاد، أو بعبارة أخرى الخلاف الذي يؤدي إلى التباغض والتشاحن والعداوة وربما ينتهي بالاقتتال بين أبناء وطن واحد -يتمتع بهذه الخصوصية التي لا تتمتع بها أي بلاد أخرى- هو ضرب من الجهل ونوع من الغباء، ويكشف خللا في طريقة التفكير الواعي الناضج الذي ينم عن عقل يتدبر ويتفكر ويعقل.
نحن في هذه البلاد أصحاب مثل وقيم وأخلاق سامية نستمدها من ديننا الحنيف، فالمحبة والسلام والتسامح هي فعلا ما يجب أن يسود بيننا، وإذا أخطأ أحدنا نبدي له المحبة ثم نحاوره ونعيده إلى جادة الصواب. استأت أشد الاستياء عندما شاهدت تراشقا بكلام بذيء على شاشة التلفزيون بين من يجب أن يكونوا أعلى قدوة في بلادنا، وكان ذلك التراشق أمام العالم بأسره ليشهد ما دار بين قيادات دينية وفكرية في المملكة العربية السعودية، فما عسى الصديق والعدو أن يقول عن سائر شعب المملكة العربية السعودية، بعد أن رأى بأم عينيه، وسمع بأذنيه شواهد وأدلة وأمثلة عن قيادات دينية وفكرية وأبناء وطن واحد يكيل أحدهم للآخر السباب والشتائم بكلمات لا تليق بنا ولا ببلادنا ولا بمكانتنا ولا بمثلنا وقيمنا وأخلاقنا، كيف نبرر للعالم هذا العداء المستحكم بيننا يا قوم؟
مَن الأولى بمعرفة قول الله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك آل عمران: 159. وقوله تعالى: فقولا له قولا لينا طه:44. لا بد أن نعي أن سوء الفهم واختلاف التضاد وعدم احتواء الخلاف لا يليق بالعقلاء، وإننا نسأل أين العقلاء فيما يجري على ساحة الوطن؟ أليس منكم رجل رشيد هود 78. إن أسوأ القلاقل والمشكلات والاقتتال تنشأ من سوء الفهم والتشبث بالرأي وطريقة التفكير الخاطئ والإصرار على الخطأ واستمالة أكبر عدد ممكن من فريق ضد فريق، بدلاً من التسامح والحوار واللين. استبدال الفهم بسوء الفهم يخلق العداوات بين أبناء البلد الواحد، ويحدث القطيعة، ويبدأ الوصول إلى نتائج لا تحمد عقباها.
خلاصة القول إن ما يجري على الساحة بين أبناء هذا الوطن الكريم العزيز المعطاء، حاضن الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين، يجب أن يتوقف فورا، فنتائج الخلاف المحموم بيننا ليست مكسبا لأحد.. نحن في هذا الخلاف التضادي نختلف على الأهداف لا على الوسائل. إنها كارثة ستحل بنا وبوطننا إن لم نتخذ من العقل والتدبر والتفكر وسيلة للتقارب والمحبة والتسامح، ولا أعرف عقلاء إذا لم يكن العاقل قادرا على القرب من أخيه المواطن، يحبه ويحاوره ويسامحه، ولا أعرف عقلاء إذا لم ينجح العاقل في الوصول إلى ذلك.
بلادنا لا خطر عليها أكبر من خطرنا نحن عليها، ولن يستطيع أحد أن يصل إليها إلا من خلالنا ومن ثغرات تفرقنا وتضادنا. محبتنا وتسامحنا خير لنا وشر ووبال لعدونا والعكس صحيح، فتفرقنا وشحناؤنا وتباغضنا شر لنا ومطلب وهدية وخير كل الخير لعدونا، لا عقل نعترف به إن لم يع العاقل ذلك، إننا في هذه الظروف الحساسة أشد ما نكون حاجة للعقلاء، والعقلاء في هذه الظروف غير العادية هم درع الوطن الواقي بعد الله، ويجب أن لا ننظر إلى كم من المعارف راكم المرء، ولا إلى مستوى الشهادة والمؤهل الذي حصل عليه المرء، ولا إلى المنبر الذي يعتليه أو الفصاحة التي يتمتع بها، بل إلى مستوى العقل والتدبر وطريقة التفكير التي يتمتع بها، والتي تؤهل المرء للحفاظ على لحمة وتماسك وترابط ومحبة أبناء وطنه بعضهم لبعض، واستغلال منبره وشهاداته وفصاحته لتكريس تلك اللحمة والحفاظ على الوطن، أما وقد قلنا كل ذلك فلا مناص من أن نكون محايدين وجادين وأمينين وعادلين في الأخذ على يد من يحاول تفتيت لحمتنا، لا بمعاقبته وإقصائه فهذا خطأ آخر نرتكبه، بل بإعادته إلى جادة الصواب، عن طريق من نثق في دينهم وأمانتهم ومحبتهم وإخلاصهم.
اللهم أدم علينا نعمك ظاهرها وباطنها، وانصر المستضعفين من أوليائك، واهد ضالنا إلى جادة الحق.