علمياً يكمن الفرق بين العالم المتحضر والعالم النامي في الكفاءات الإدارية التي تصنع القوانين وتراقب تطبيقها وتمنع تجاوزها أو التحايل عليها

صحفي بولندي اسمه George Mikes عمل في بريطانيا وألف كتاباً اسمه بالعربي - بحسب ترجمتي - كيف تكون أجنبياً؟، يذكر المؤلف في المقدمة أنه ألف الكتاب ليغضب البريطانيين ليس إلا، لكنه للأسف فشل في استفزاز الدم الإنجليزي البارد سوى أن زميلة له أخبرته أن زوجها تصفح الكتاب وهو يقول Rude بمعنى فظ، ثم ألقى بالكتاب، والكتاب شيق جداً ويصف البريطانيين وفخرهم ببلادهم وعلاقتهم بجيرانهم وصداقتهم الفريدة بالكلاب وثناءهم على الطقس على الرغم من أنها قد تكون تمطر مند أسبوعين.
أهم موضوع في الكتاب هو نظرة البريطانيين للمقيمين في بريطانيا بوصفهم أجانب.
يذكر المؤلف قصة لقائه بفتاة ارتبطت به بعلاقة وذكرت أمامه الزواج، فرد عليها: بصدق لا يمكن أن أتزوجك، لا يمكن أن تقبل أمي أن أتزوج أجنبية، نظرت الفتاة نحوه ببرود متسائلة: من الأجنبي؟ ليرد: أنت، فترد عليه: أنا بريطانية لا أكون أبداً أجنبية، أنت وأمك الأجنبيان، فيتساءل غاضباً: حتى في بودابست؟ لترد بسرعة: حتى في بودابست وفي أي مكان.
أقول ربما ظنت الفتاة أن كون بلادها كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ما يعني استيلاءها على كل دول العالم ما عدا عشرين دولة تقريباً يجعل من البريطاني مواطناً في كل الدنيا.
هناك أيضاً شعور لدى البريطاني بانفراد جنسه؛ تقول لي سيدة حاصلة على الماجستير في القانون: لا يمكن اعتبار الهنود الحاصلين على الجنسية البريطانية بريطانيين، قلت لها: لكنها مئة سنة وأكثر! ردت: يظلوا مهاجرين، عموماً الإسكتلنديون أو بعضهم يرى البريطانيين أقل درجة منهم، وأنهم مجرد مهاجرين احتلوا بلادهم، للأسف تحولت المشاعر إلى أعمال وها هم والإسكتلنديون قريباً سيصوتون للانفصال عن بريطانيا.
أقول: عادة الإنسان الذي يشعر بالنقص يقلل من مكانة الآخرين أو أصلهم أو وطنيتهم أو أحقيتهم بالوطن، للأسف ما سبق يشبه بشكل ما قضايا الكفاءة لدينا والنسب، وإن كان هناك قانون يعاقب من يبدي للعامة هذه المشاعر فلا يفكر إسكتلندي بتطليق أخته من بريطاني بسبب الأصل مثلاً.
يقول أستاذي: الأجانب يعانون في كل مكان، وأخبرته أنه في مواضع كثيرة من القرآن جعل الله - عز وجل - جزءاً من الإيمان والبر إكرام ابن السبيل أو الغريب؛ في التفاتة عظيمة من الله عز وجل بمشاعر إنسان ترك بلده وأهله وعشيرته لسبب ما ليس منها سلب رزق أهل البلد أو تعكير مزاجهم مثلاً.
الغربة ليست شيئاً هيناً تستطيع تجاوزه بسهولة، بل هناك مرض نفسي مرتبط به وهو ما يسمى هومسيك؛ حيث تدهم الشخص الرغبة بالعودة حتى لو كان في منتصف هدفه، ويصبح موجعاً جداً حينما يتذكر مدينته أو الشارع الذي يؤدي إلى منزله ورائحة طعام أمه، ولا شك بل إن الكثير من الموجوعين من أوطانهم حالهم يشبه حال الشاعر العربي العظيم القائل:
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
ربما هذا الشاعر قارن الظلم الواقع عليه في الغربة بغبن أهله فرجحت كفة وطنه، ربما لأن الإنسان في الغربة يصبح حساساً جداً ويفسر كل تصرف على أنه موجه له كأجنبي.
أكثر الأمور التي استوقفتني منذ انضمامي لقبيلة الأجانب نظرة المواطن أو فلنقل في بريطانيا الطبقة المسحوقة، وهي التي تبدي بعض العنصرية تجاه الأجانب، حيث يتحاشى المتعلمون والأغنياء أي تصرف قد يؤذيك ويدفعك للشكوى لأسباب عدة منها الإنسانية وأحياناً قوة القانون.
الطبقة المسحوقة تظن أنك أخذت مصدر دخلها وشاركتها في فرصة العمل وأنت بطريقة أو بأخرى سبب فقرها، لكن ذلك لا ينطبق للأسف على السعودية.
لقد قرأت ردوداً في تويتر من مثقفين وكتاب أعمدة وفنانين أيام حملة المملكة بخصوص الجوازات تقف مصعوقاً أمام لهجتها العنصرية التي تحمّل وجود هؤلاء الوافدين - وبعضهم إخوة عرب ومسلمون - كل مشكلات المجتمع والاقتصاد في المملكة؛ مما يثير الدهشة، فمن وفد بفيزا وتصريح عمل وليس ذنبه أن تجربة غيره سهلت له شراء فيزا من شخص لا يحتاجه وجاء كمستثمر في صورة طالب عمل.
علمياً يكمن الفرق بين العالم المتحضر والعالم النامي في الكفاءات الإدارية التي تصنع القوانين وتراقب تطبيقها وتمنع تجاوزها أو التحايل عليها، لذا فعلى الرغم من الشروط التي تكاد تكون تعجيزية في بريطانيا ومن بينها تحقيق درجة في اختبار اللغة والقدرات والمهارات التي يتطلبها العمل وتاريخ طالب الفيزا وسيرته تجعل الشكوى من الوضع في بريطانيا نادرة، كما تضمن فقط دخول من تستفيد منه البلاد ويستفيد هو ومن ثمّ تضمن له الحكومة البريطانية كرامته داخل أراضيها.