أتذكر مرة أن معلمة بالمرحلة الابتدائية شغلت لنا شريط فيديو عن المجاهدين والجهاد في أفغانستان، أرتنا منه بعض المقاطع، ثم ختمته بحديث حماسي عن فكرة الجهاد رغم أننا فتيات صغيرات، ولم يختلف ذلك الخطاب حين كنتُ طالبة بالمتوسطة، فبعض المعلمات المتشددات في بعض الحصص وحتى المحاضرات أو مغسلات الموتى ممن تُحضرهن إدارة المدرسة، ليعلمننا نحن الصغيرات كيف نغسل الموتى ونتعظ من عذاب القبر، كنّ أيضا ضمن خطابهن المتشدد يدفعننا بلغة حماسية إلى التحسر على أننا فتيات لا نستطيع الجهاد في أفغانستان والدول الكافرة كالشباب الذكور بحثا عن رائحة الجنة في الشهادة! لكنهن يحمسننا أن نجاهد بطريقة أخرى، فلكوننا فتيات لا نستطيع الجهاد، لكن نستطيع أن نكون مثل الخنساء أمهات لشهداء ومجاهدين، وعلينا مستقبلا أن ندفع بأبنائنا إلى الجهاد في سبيل الله!
مثل هذا الخطاب يعرفه من كان في جيلي جيدا، وربما ما يزال له بقايا متخفية في بيئة التعليم إلى اليوم، وأتذكر أن كثيرات تحمسن لهذه الفكرة، أن يكنّ أمهات شهداء، وأقولها بصراحة: إني حينها شعرت بهذا الحماس، ولولا لطف الله تعالى لكنتُ ممن انتهج طريق التشدد والتطرف، نتيجة تلك التعبئة التي نالت منّا في بيئة التعليم آنذاك، وهؤلاء المعلمات والمعلمون لا يقومون بذلك إلا اتباعا لشيوخ صحوة الطفرة آنذاك، ممن راجت أشرطتهم في الأسواق وخطبهم في المساجد وشوهت كثيرا من حياتنا وأخرجتنا عن طبيعتنا السوية لنغرق في الغلو، وجعلتنا كمجتمع ننمو إلى الخلف لا إلى الأمام!
تذكرتُ ذلك، ونحن نسمع اليوم ببعض النسوة ممن اعتنقن الفكر الجهادي مع الأسف وبعضهن فررن إلى القاعدة، ظنا أنها ستكون زوجة شهيد أو أم شهيد، فاللقب من الناحية النفسية يهب كثيرا لمن يعاني فراغ الألقاب والهامشية، ولكن حتما هؤلاء لسن كـأم فهد في برنامج الثامنة للأستاذ داود الشريان التي بكت بحرقة ابنها ممن تمّ استغلاله باسم الجهاد، لقد أبكتني معها والله، وهي تقول إنها في كل رمضان تصنع له السنبوسه وغرفته تنتظره إلى اليوم، ثم جاء صوت أم محمد وأوجعت به قلبي، فما ذنب هؤلاء الأمهات اللاتي تم اختطاف أبنائهن من أحضانهن، نتيجة التعبئة الخبيثة التي تستغل المراهقين وتزج بهم في حروب لا يدركون معناها، ولا يُدركون أنه يتم استغلالهم طائفيا وفي مصالح سياسية لا علاقة لها أبدا بالجهاد.
إن ما تناوله الأستاذ داود الشريان في برنامج الثامنة جاء على جرح بات مسرطنا خبيثا، وبعض الأسماء التي ذكرها لا تفتر عبر برامجها وخطبها وتغريداتها عن التحريض على الجهاد والبحث عن الجنة، فيما ينعمون هم في قصورهم بين نسائهم وأولادهم، ولطالما كتبتُ عن زيف خطابهم وتجارتهم الرخيصة، وحقا هناك من كان لا يحرض على الجهاد في سورية، ولكن صمتهم عن تحريض زملائهم وأصحابهم بمثابة التحريض، ألم يقولوا قديما السكوت علامة الرضا، ولكن مهما تبرؤوا من تحريضهم الموثق في اليوتيوب صوتا وصورة، فإن صوت أم فهد وأم محمد ومثيلاتهما الموجوعات سيتردد في أطراف الليل والنهار، وإن ردّه البشر فلن يرده ربّ البشر، وسيأخذ لهن بحقهن ممن حرق قلوبهن.