قبل أن يبدأ الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ بإنشاء المؤسسات التعليمية أجاب هو ومن معه على السؤال المفتاح في أي عملية تنموية مرتبطة مباشرة بحالة التعليم: ماذا نريد من التعليم؟ ومن ثم رسموا خطتهم للتعليم

صحيح أن العلم هو غاية بحد ذاته، ليس بحاجة إلى أي تبرير أو تعليل؛ ولكن التعليم بشكل عام بمؤسساته التعليمية والإدارية، المرتبطة بخطط الدولة، بحاجة دوماً إلى التبرير والتعليل. فالتعليم يجب أن يجيب أولاً عن السؤال الأهم في أي عملية إدارية تنموية؛ ماذا نريد من التعليم الآن في المدى المتوسط إن لم نقل القريب؟
في عام 1931، زار المملكة الرجل الصناعي الكبير والمحسن الشهير تشارلز كرين، عندما كان اسمها آنذاك مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها. السيد كرين زار مدرسة في جدة واطلع على مناهجها وطرق التدريس فيها. وعندما التقى بعد زيارته للمدرسة بالمغفور له الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه؛ سأله لماذا لا تدرّسون ضمن مناهجكم الدراسية العلوم كالكيمياء والفيزياء والجيولوجيا واللغات الأجنبية؟
ابتسم الملك عبدالعزيز، وقال لتشارلز كرين: نعم نحن نعي تماماً أهمية العلوم واللغات في التعليم؛ ولكننا الآن بحاجة ماسة إلى موظفين يعرفون جيداً القراءة والكتابة وعلم الحساب، وبعد سد حاجة الدولة من الموظفين، سنبدأ ندخل من المناهج التي ذكرت ما نحتاج إليه في الفترة التي بعدها. فنظر السيد كرين إلى الملك عبدالعزيز وقال له وهو معجب برده الذي ينم عن علم مسبق ودقيق بعلاقة التعليم بالتنمية: إذاً أنت أدرى مني بما يخدم مصلحة شعبك ودولتك.
وقبل أن يبدأ الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى بإنشاء المؤسسات التعليمية أجاب هو ومن معه عن السؤال المفتاح في أي عملية تنموية مرتبطة مباشرة بحالة التعليم: ماذا نريد من التعليم؟ ومن ثم رسموا خطتهم للتعليم، من ناحية المناهج وسنوات الدراسة وطرق التعليم، حسب ما تقتضيه المرحلة التنموية المبكرة حينها للمملكة. وهذه هي قمة الوعي بمكانة التعليم وعمل التعليم كجزء مكمل ومتسق مع عملية التطوير والتنمية الكبرى للدولة. إذاً فالإجابة عن السؤال المفتاح في العملية التعليمية ماذا نريد من التعليم، لا تخص مسؤولي وزارة التعليم فقط؛ وإنما تخص وتعني جميع مسؤولي وزارات وأجهزة الدولة بشكل عام. حيث مخرجات التعليم هي التي سوف تكون الداعم والرافع لكل خطة من خطط الوزارات في الدولة ومؤسساتها العامة، بتنوعها والرابطة بينها، والتي في المحصلة تصب في نبع واحد وهو التنمية بشكل عام، حسب المرحلة المخطط لها.
ولو أن الملك عبدالعزيز رحمه الله ومسؤولي الدولة آنذاك، نظروا إلى التعليم، بنظرة مستقلة عن أجهزة الدولة الأخرى وحاجيات الدولة له، لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من تنمية تحسب لهم، بالرغم من تواضع مواردهم المادية. وماذا يعني النظرة المستقلة للتعليم؟ النظرة المستقلة للتعليم هي أن ننظر إلى التعليم وكأنه جهاز قائم بذاته من أجل ذاته؛ وهنا يتم الخلط بين مفهومي العلم والتعليم. فلو أخذت الدولة في زمن الملك عبدالعزيز بمفهوم العلم وطبقته بتعسف ودون وعي على عملية التعليم حينها؛ لنقلوا مثلاً نظام التعليم في مصر الأكثر تطوراً في العالم العربي، وطبقوه بحذافيره لدينا. وهنا ستحدث الكارثة، حيث نظام التعليم في مصر لن يصلح كنظام تعليم آنذاك لمملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها، ولا للمملكة العربية السعودية بعدها. وذلك لكون نظام التعليم في مصر كان وقتها يجيب عن سؤال، ماذا تريد مصر من التعليم حينها؟ ورسمته وطبقته على أساس الجواب عن السؤال المفتاح هذا. وهذا لا يعني السعودية وقتها ولا الآن لا من قريب ولا من بعيد.
ولو استنسخنا الآن أيا من نظم التعليم في اليابان أو السويد، حيث تمتلك هذه الدول أفضل تعليم في العالم، وطبقناه في السعودية؛ فسيوقعنا في كارثة؛ مرة أخرى لكون أنظمة التعليم في هاتين الدولتين تجيب عن السؤال المفتاح للتعليم، وهو ماذا تريد اليابان أو السويد من التعليم، وبالتحديد في هذه المرحلة؟ وليس ماذا تريد المملكة العربية السعودية. ولا يعني هذا عدم الاستفادة من تجارب الآخرين الناجحة في التعليم أو غيره، بل بالعكس، فالبحث عن الحكمة هي غاية وضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أولى وأحق بها من غيره. ولكن هنالك فرق بين التقليد الأعمى والاقتباس الواعي. فالاقتباس الواعي لا يكون بنقل نهج نظام التعليم المستهدف بالاستفادة منه؛ ولكن بالاستفادة من مناهجه وخاصة طرق ووسائل توصيل معلوماتها من المنهاج الدراسي للطالب.
فمثلاً مناهج الرياضيات في كل من نظم التعليم في اليابان والسويد، معدة حسب التنمية القائمة في هذين البلدين وخطط مراحلها التنموية المستقبلية المدروسة والمستهدفة مسبقاً. اليابان والسويد تنافسان عالمياً على جودة ودقة التصنيع التقني المتناهي الدقة والصغر. وهنا ترسم في مناهجها المادة التي تخدم هذا الهدف وتطوره.
سألت أستاذ رياضيات جامعيا أميركيا، السؤال التالي: ألا تعتقد بأن الآلات الحاسبة الإلكترونية الدقيقة التي يستخدمها طلابك، وتوصلهم إلى نتائج المعادلات الرياضية من دون أن يعوا كيف وصلوا إليها؛ تعيقهم من فهم أبجديات الرياضيات؟ فأجاب بـ لا أبداً، الآلات الحاسبة الإلكترونية اختصرت علينا تضييع الوقت والجهد والمادة في تفهيم الطلبة أبجديات المعادلات الرياضية، لنركز فهمهم على العمليات الرياضية المتقدمة وطريقة تطبيقها في صناعة التقنية وخاصة تقنية الفضاء وتطبيقاته المباشرة.
وسألت السؤال نفسه أعلاه لأستاذ رياضيات جامعي لدينا فأجاب: نعم نعم، هذه كارثة نعاني منها، وأنا بقدر استطاعتي أحاول حرمان طلبتي من استخدام الآلات الحاسبة في الامتحانات؛ حتى أتيقن تماماً أن طلبتي يعون جيداً كيف توصلوا إلى نتائج المعادلات الرياضية التي أطلب منهم حلها في الامتحان. جواب أستاذ الرياضيات الأميركي وجواب أستاذ الرياضيات العربي؛ يوضحان تماماً ما عنيت في مقدمة المقال، بوجوب التفريق بين العلم والتعليم.
من جواب الأستاذ العربي لمادة الرياضيات، عن سؤالي نفهم أنه يعلم الرياضيات كعلم خاص بذاته، بمعزل عن أي شيء آخر؛ ولذلك لا يحتاج تعليمه إلى أي سبب أو مبرر سوى فهم علم الرياضيات من ألفه إلى يائه؛ وهذا مستحيل عن طريق عدة محاضرات في السنة مع مواد أخرى. أما جواب الأستاذ الأميركي لمادة الرياضيات عن سؤالي، فنفهم منه أنه يعي تمام الوعي، أن تعليمه لمادة الرياضيات لطلبته مرتبط ارتباطا وثيقا بنظام تعليمي كامل؛ يسعى إلى خدمة تنمية حالية شاملة، وفي نفس الوقت يمهد لما بعدها من مرحلة تنموية وبكل سلاسة وتدرج.
في الرابع من أكتوبر من عام 1957، أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي في التاريخ سبوتنك1، خرج من المجال الجوي إلى الأرض ودار حول الأرض بكل نجاح وسلاسة. وهذا الفتح العلمي البشري العظيم، سقط على رؤوس قادة الولايات المتحدة الأميركية كالصاعقة؛ بسبب المجابهة الشرسة بينهما في الحرب الباردة. اجتمع قادة الولايات المتحدة الكبار، للنظر في الكارثة التي ستحل ببلادهم، إذا ما مضى قدماً الاتحاد السوفيتي في سيطرته على الفضاء وهم يتفرجون. فاتفقوا على أنهم في حال تحسين نظامهم التعليمي سوف يجابهون السوفيت وينتصرون عليهم. فضخوا أكثر من ستة وثلاثين مليار دولار لتحسين التعليم لديهم.
وفي عام 1969، أنزلوا أول بشر على سطح القمر وأعادوه إلى الأرض سالماً. وهكذا تنتصر الأمم عندما تعي حق الوعي، ماذا تريد من نظام تعليمها؟