يجب أن نسأل: كيف يمكن أن تتحول اللغة العربية الوطنية من كونها سبب ضعف التعليم والوطنية والمواطنة، إلى أن تكون سبب النهوض والتطور والإنتاج والابتكار وتعزيز المواطنة والوطنية؟

أكبر خلل في التعليم اليوم، الذي يؤثر سلبا على جميع أدوات التعلم، وعلى كيفية التعلم والتعليم في جميع المؤسسات التعليمية؛ هو ضعف لغة التعليم.
اللغة هي أهم الأسس التي يعتمد عليها القادة في بناء الأوطان وسيادتها واستقلالها؛ لأن اللغة مرتبطة بالهوية وبالسيادة والوحدة الوطنية. واللغة هي التي تربط جميع المواطنين بكافة شرائحهم ببعضهم، بل إنها هي التي تحقق المساواة والعدالة بين المواطنين، وتعزز اللحمة الوطنية، وتعمل على تكافؤ الفرص. ولهذا تأتي في مقدمة الدساتير وأنظمة الحكم؛ لأنها من أهم أدوات السياسة التي يتم بها الحكم والإدارة في جميع مؤسسات الدولة، وبها يتواصل المواطنون ببعضهم ويقضون مصالحهم.
ونظرا لأهميتها الوطنية القصوى، تعمل الدول في أولى السياسات التعليمية على ترسيخ وتقوية وتمكين اللغة الوطنية؛ حتى يتم البناء عليها؛ ولأن اللغة الوطنية هي الرافعة التي تعتمد عليها بقية مكونات الوطن، لهذا تأخذ مكانها قبل أي شيء، ولهذا يتم العمل على وضع اللغة الوطنية بشكل يضمن نجاحها في حمل ما يتم وضعه عليها من نظم وسياسات وخطط؛ حتى تتمكن من تحقيق أهداف تلك السياسات.
وهنا أسوق قصة تروى في الأدبيات عن الحكم والسياسة، بأن أحد الحكام أراد أن يقوم بإصلاح الدولة بعد تقادم مؤسساتها وأنظمتها، فجمع مستشاريه وعرض عليهم رغبته في أن ينصحوه بما يجب أن يبدأ به لإصلاح الدولة، فتبارى المستشارون، كل يريد أن يكون له السبق في النصحية التي تسهم في إصلاح الدولة، فمنهم من قال ابدأ بإصلاح السياسة، وأخر الاقتصاد؛ لأن توفير الموارد سوف يسهم في توفير المال الذي يمكن من عمل الدولة وتطويرها، وآخر تحدث عن الأمن والجيش، وغيره عن الزراعة، وكل أخذ يدلي بدلوه حتى انتهى الجميع، وبقي كبير المستشارين لم يقدم رأيه للحاكم، فتوجه له الحاكم وطلب منه أن يدلي برأيه فقال: ابدأ بإصلاح اللغة، فبها يتم إصلاح السياسة والاقتصاد والتجارة والصناعة والجيش وكل أمور الدولة، فالناس بها تتم إدارتهم وحكمهم وتوجيههم وتعليمهم، وبها يتواصلون ويفكرون ويبدعون وينتجون ويتحاكمون ويحتكمون ويأتمرون ويتعبدون، وهي التي توحدهم وتجمعهم.
وهذا حالنا اليوم، نريد أن نبدأ بإصلاح اللغة؛ لأن اللغة في تعليمنا وفي حياتنا اليومية أصبحت ضعيفة جدا إلى درجة أن البعض منا أصبح يكرهها أو يمقتها أويحتقرها أو يعيب من يهتم بها، في الوقت الذي تمجد فيه اللغة الأجنبية وتعظم على حساب اللغة الوطنية، وهنا الخلل الكبير؛ ولهذا وجب أن نسأل كيف يمكن أن تتحول اللغة العربية الوطنية من كونها سبب الضعف في التعليم وفي الوطنية والمواطنة، إلى أن تكون سبب النهوض والتطور والتقدم والنجاح والإنتاج والإبداع والابتكار وتعزيز المواطنة والوطنية؟
لقد تم إضعاف اللغة العربية عبر عدة مسارات: منها؛ تهميش أقسام وخريجي اللغة العربية في الجامعات، وتمكين غير المختصين من تعليم اللغة العربية في المدارس؛ حتى أصبحت صعبة لعدم كفاءة معلميها، والاستهتار باللغة العربية وعدم إعطائها القدر الكافي من الوقت في الخطط الدراسية، وعدم التدريس باللغة العربية السليمة والتدريس باللهجة العامية، وعدم تكامل الأساتذة في جميع المقررات في متابعة وضع اللغة العربية، وتصحيح أخطاء الطلاب والطالبات، والإهمال التدريجي للإشراف التربوي للغة العربية في جميع التخصصات، وعدم ربط إتقان اللغة العربية بالدخول إلى حقل التدريس، وعدم ربط الترقية بكفاءة التعليم والعلاوة السنوية، وعدم وجود دورات تدريبية للأساتذة. ثم الطامة الكبرى إدخال اللغة الأجنبية ضمن الخطط الدارسية.
كثيرون أصبحت عيونهم على الخارج وعلى اللغة الأجنبية؛ لأن سوق العمل فرض على التعليم اللغة الأجنبية، ولكن يستطيع التعليم عمل العكس بالتنسيق مع وزارات العمل، والخدمة المدنية، والتجارة، والخارجية، فسوق العمل يجب أن تشترط اللغة العربية لدخول سوق العمل. ونقول لأنصار اللغة الأجنبية: تخرج عشرات الآلاف من القرى والأرياف، ودخلوا الجامعات ثم تخرجو منها وهم لا يعرفون مفردة في اللغة الأجنبية، ثم تم ابتعاثهم فدرسوا اللغة الأجنبية في عدة أشهر أهلتهم للدراسات العليا في الجامعات العالمية، وتميزوا بها في تعلمهم، ولكن بعد أن عادوا وهم يحملون الشهادات العليا، لم يترجموا ولم ينشروا إلا النزر اليسير فقط للترقية العلمية، ثم يطالب البعض منهم للتدريس باللغة الأجنبية، فأين أبحاثهم وترجماتهم؟ ولكن هذ يعود لعجزهم في اللغتين العربية والأجنبية، ولهذا يتخفون خلف اللغة الأجنبية. القضية خطيرة جدا، فالهوية الوطنية والسلم الأهلي في خطر على المدى البعيد، وقد يصل أنصار اللغة الأجنبية إلى مطابلات تهدد السلم الأهلى، كما يحدث في العديد من الدول اليوم؛ لأن اللغة الوطنية تم اسقاطها من أولويات الدولة لتحل اللغة الأجنبية محلها، وتتشكل قوى سياسية داعمة للغة الأجنبية؛ لارتباط مصالحها بها، مما يؤدي إلى تهميش اللغة الوطنية. وهنا يكون الخلل في التخطيط ويكون العلاج مكلفا للغاية.
إن اللغة العربية تختلف عن بقية اللغات، فهي لغة العلوم والمعارف والسياسة والترجمة والفلك والرياضيات والفلسفة والطب وغيرها من العلوم وليست حديثة عليها، إنما نحن الحديثون على اللغة العربية، ولهذا كانت لغة العالم الأول حين كانت الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة السائدة في العالم. لم تتراجع اللغة العربية كلغة، ولكن التراجع الإسلامي بعد سقوط الأندلس والحكم العباسي، ثم الاستعمار أدى إلى تراجع العرب ولغتهم لأكثر من ستمئة سنة، وما يزالون يعانون، بل إنهم يدخلون اليوم في تحد مع اللغة الأجنبية التي تسيطر على عقول أبنائهم وبناتهم، ونسو أن استعمار العقول يؤدي إلى استعمار الحقول.