كل معرفة علم وليس كل علم معرفة، وهنا تكمن الإشكالية، التي لم يفقه أبناؤنا وبناتنا كنهها، فتدنى مستوى التعليم بسبب اعتماده على منهج الحفظ، إذ على الأبناء أن يحفظوا ما يخط وما يدون ليس إلا !
تباشر الناس وابتهج أولياء الأمور قبل المؤسسات التعليمية نفسها، بتولي رجل من رجال الثقافة والعلم وذوي الغيرة الشديدة على وطنه وثقافة وعيه، وهو صاحب الحس الدافق، صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل.
ومن عادة البشر أنه بعد النشوة والفرحة ولملمة عناقيد الفرح، والإفاقة من فرط النشوة أن يفكرون في ماذا بعد.
حقيقة كتب ما كتب واحتفل من احتفل وفرح الناس جميعهم بلا استثناء ولا نزايد على أحد، فما نحن إلا فرد بين هؤلاء نتنسم عبيرهم ونفرح معهم، والتي هي فرحة في مكانها بدون شك. فصاحب السمو معجون بتربة هذه الأرض، عارف وواعٍ بكل همومها ونجاحاتها على حد سواء.
ولسنا ممن يثقلون ولا من يهولون أو يهونون، إنما في نهاية الأمر كلنا نشرب من معين واحد، ألا وهو الوعي والثقافة والمعرفة لأبناء جيل قادم هو بطبيعته قائم على هذه الأرض جاهز لتقبل ما ينضح به الإناء حسبما امتلأ.
ولدينا ولله الحمد نخبة ثقافية ورجال ينتظرون ما يؤمرون في صف واحد دون كلل أو تأخير.
ومما عانت منه الأمة العربية في هذه السنوات هو تلك الفجوة الكبيرة بين النخبة والعامة، خاصة الشباب منهم مما نتج عنه (اغتراب ثقافي) لما تزخر به الساحة من تدفق معلوماتي متمثلٍ في القنوات والثقافة الإلكترونية وغيرها مما عمل على اختزال عنصر الزمن؛ ومما أربك الوعي خاصة الوعي التنويري (سياسي، ديني، إنساني، الخ..)!
فهل لنا من تربية البحث عن المعرفة والتي ناشدها سمو الأمير في قصيدته الذاهبة حين قال: (يا المعرفة ياما سعيت. أدوّرك وأنت شرود).
فهو يعلم صعوبة دهاليزها ووعورة مسالكها والتي أشغل بها جل الفلاسفة والمفكرين وقضوا حياتهم في البحث عنها!
والمعرفة وجمعها معارف والتي هي من حملت وزارته فيما سبق هذا الاسم (وزارة المعارف)، والمعارف أشمل وأوسع وهي كذلك .لأنها حينما كانت تحمل هذا المسمى انتجت لنا جيلا ثقافيا معرفيا وعلى رأسهم صاحب السمو. حيث إن كل معرفة علم وليس كل علم معرفة، وهنا تكمن الإشكالية، والتي لم يفقه أبناؤنا وبناتنا كنهها، فتدنى مستوى التعليم بسبب اعتماده على منهج الحفظ لمقررات تسطر بوجهة نظر معينة وعلى الأبناء أن يحفظوا ما يخط وما يدون ليس إلا!
فذهبت العوالم الوطنية والذاتية والعلوم الإنسانية والفكرية مذهبا بعيدا لأنه ذهب المنهج في التفكير. فإذا تحدثنا مع خريجي الجامعات نجدهم لا يحوون سوى ما يحفظون من ملازم تعينهم في اختباراتهم الدراسية، ثم سرعان ما يذهب ما يحفظون لمجرد انقضاء فترة الاختبارات!. وهنا أتذكر مقولة أحد أساتذتي في الجامعة حين قال: من لم يقرأ ويتثقف، ويوسع مداركه بالفكر والتفكير وهو طالب فلن يفعل شيئا فيما بعد. مؤكدا على أن أعباء الحياة وسرعة إيقاع الزمن سوف لا تسمح بالتفرع للعلوم والمعارف. والحقيقة أن الرجل محق أولا في مسألة الولوج في مجالات الحياة الشاغلة، والأهم من ذلك هو تربية التفكير على منهجية في الطرح والعطاء والاستيعاب، وهو ما يقع على عاتق المؤسسات التعليمية والمعرفية.
إن منهجية التفكير تشحذ الحافظة وتثقب مخازن الإبداع، والإبداع هو أهم ما نصبو إليه من كل فرد تقلد صفة (المواطنة).
ومما رأيناه في الجامعات الغربية والتي قد نستقرئها هو العمل الجماعي في عملية التحصيل العلمي والاعتماد على البحث عن المادة وعن معارفها ومنابعها ومسالك أمورها بحثا لا يعتمد على كتاب ولا مخطوط بقلم من وجهة نظر أحادية ومن هنا ينتج لنا نقطتين مهمتين، الأولى التعلم على العمل الجماعي ونبذ الذاتية، فينتج لنا شخصية تحب الجماعة وترى نفسها متجذرة في لحتمها وهو أمر في غاية الأهمية في الحياة المجتمعية والوظيفية فيما بعد؛ بينما نحن نذكى روح الفردية في أبنائنا بالتفوق الذاتي، ويذكيه أيضا أولياء الأمور في أبنائهم حين يتفوق ابنهم على زميله في الصف أو ابن الجيران إن صح التعبير.
الإبداع دائما عمل جماعي معتمد على مرسل ومتلقٍّ ورسالة وموضوعه هو أهم ما في الأمر.
الأمر الثاني: هو العمل على تنمية التفكير المنهجي؛ فيقول سامي إبراهيم وهو أحد النماذج التربوية في التعليم والمدرب على منهج التفكير الناقد: أن (منهجية التفكير الناقد هي عملية عقلية تشمل التحليل والتقييم واتخاذ القرارات وتقييم المعلومات والتفكير المبلور والعقلاني والمنطقي) وهو ما يقوم بتعليمه في مجاله؛ ثم يقول (إن صاحب التفكير المنطقي يربط بين العناصر القائمة على تربية القدرة على النقد أي القدرة على التفسير والتحليل ويعطي تبريرا لإجاباته وردوده ويدافع عنها منطقياً، فصاحب التفكير الناقد لا يؤمن بالتنميط والفكرة الغالبة stereo typing فصاحب التفكير المنطقي الناقد يحل المشاكل بطريقة منظمة)..
ولنا أن نتأمل بين منهج التفكير والمنهجية في التفكير، فكل منا يعلم هذه المناهج ويدرسها حسب المناهج المقررة؛ ولكن هل نُعلم أبناءنا المنهجية في التفكير بحيث يكون تفكيره هو دون سواه منهجيا ممنطقا، وهنا يكمن الفرق! في بناء جيل مفكر متعاطٍ لمعطيات يستنبط منها نتائج هو دون سواه، وبدون أي مؤثر خارجي يعبئ رأسه بما يريد دون أو يعلم وعلى حين غرة، فيُسرَق الشهاب من بطن السماء.
ويرى البروفيسور والعالم: بنجامين بلوم Benjamin Bloom 1956 في نظريته (مهارات التفكير) أن مهارات التفكير تسير على سلم بدايته التذكر ثم الفهم ثم التطبيق ثم التحليل ثم التركيب ثم التقييم)، ويقول سامي إبراهيم: إن مهارات التفكير العليا هي التحليل والتركيب والتقييم أي اتخاذ قرارات؛ والاستنباط هو توليد أفكار جديدة على نفس الفكرة السابقة؛ والاستقراء هو قراءة أو فهم القاعدة أو النظرية أو الفكرة الرئيسة.
وأهم ما يهمنا هو إنتاج فئة مبدعة قادرة على اتخاذ القرار، ويكون ذلك منذ بداية مراحل التعلم واكتشاف المواهب المبكرة في المراحل الأولى وتدعيمها؛ فالثقافة ليست رفاهية للنخبة بل حق مستحق لكل فرد، ومفتاح خزنتها هو التعليم الذي يبني معرفة ويكشف الطريق نحو مسالكها.
نحن بحاجة إلى جيل متدرب على مهارات التفكير الناقد والمعتمد على: (التفكير المنطقي، والتبرير، والتنميط والنمذجة، التفكير الشبكي، والتنظير، والتماثل، والاستنباط deduction، والاستقراء Induction، والتنبؤ بناء على المعلومات المتوافرة).
نحن لا نريد أن نثقل كاهل رجل يعلم أكثر مما يطرحه الكثيرون، ولكننا مؤمنون بقدراته في إنتاج جيل واعٍ قادر على اتخاذ القرار. فاتخاذ القرار يحتاج تفكيرا ممنهجا مبدعا واثقا من نفسه.