طالما تساءلت عبر مسيرة طويلة من التلقي والتفاعل مع المنجز الإبداعي
طالما تساءلت عبر مسيرة طويلة من التلقي والتفاعل مع المنجز الإبداعي، تُرى هل هناك معيار جليّ وواضح يمكن أن يضعه المبدع نصب عينيه فيما هو مرتهنٌ إلى الحالة الإبداعية وداخل في أتونها، ومنساقٌ وراء تخييلاته، ومنهمك في تشييد معماره، ومتدفق كالنبع؟ وحتى حين يكون لنا معايير أو محددات هل سنكون أوفياء وعلى التزام ومسؤولية بحيث لا نتجاوزها أو نقترف ما يخالفها؟ وهل للأمر ـ وهو وثيق الصلة بالنتاج الإنساني الصرف ـ تلك الحدّية والقانونية التي تحيله من فعل إبداعي خلاق إلى عمل آلي مقنن كما يرى جلّ المبدعين، مثل من هم على شاكلة الفرزدق في تعاطيه مع النقد رفعتها على ما يسوؤك وينوؤك؟ كل هذه التساؤلات جديرة بأن تفرض حضورها، وأنا كغيري من المتابعين والمشتغلين نرقب ما تزفه المطابع من إصدارات موسومة بـالإبداع، حيث يتسابق الجميع للحاق بمواعيد معارض الكتب، أو الجوائز المعلن عنها في المؤسسات الثقافية المختلفة، والعيون شاخصة إلى بقعة الضوء، وهذا أمر محمود لولا أن جذر السؤال لمّا يزل في حاجة إلى إجابة ترويه وترطب تربته المتيبسة.
قيل في مأثورات النقد العربي: إن الشعر يهززك عند سماعه، فإن لم يكن فليس قمينا أن يتخذ من التسمية شيئا، وإن الشاعر الفحل لا يعاضل بين الكلام، وإن انزياح الدلالة إلى غير مكانها من قبيل استنوق الجمل، حتى والحديث يطال فحول الشعر بوصفه سمة إبداعية ومعيارا اتخذه ابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء، فهو يأخذنا إلى اتجاه معياري آخر مفاده السؤال التالي: ماذا كان الجمحي سيسمي كتابه الطبقات لو أنه لشاعرات عربيات؟ هل سيتلاشى معيار الفحولة هنا؟، أما الحديث عن النثر وفنونه فسيدخلنا في إشكالية متنوعة المصادر، فبدأ بالكاتب ومدى اختلافه وتميزه، مرورا بالناشر ومستوى نظرته إلى الساحة الثقافية بوصفها سوقا مثمرة أم فعلا تنمويا مؤثرا، وليس انتهاء بالمتلقي ومقدار ترقيّه وعدم تنازله عن رتب الإبداع الذي يأمله ويتماهى معه ويقيس عليه.
أعرض هذه الجدلية وكلي يقين أن من شداة الإبداع من سيرفع عقيرته باعتراض أحترمه: وهل تريد منّا أن نكتب وفق قوانين فيثاغورس، وتعليمات مندل، ولوغاريتمات نايبير؟ بالطبع كلا ثم كلا، بل على النقيض تماما، فالإبداع فعل عفوي حرّ واختلاف لافت وحضور مدهش، قبة سديمية تتطاير فيها الآمال والأحلام والآلام كالفراشات، بوح وشكوى في غير ما ضجيج، سمو وهو يلامس القاع، جرح راعف في شكل ثغر باسم، لوحة سوريالية تنظر إلينا وتقرأ وجوهنا بصدق وواقعية. هذه معاييري فهل وجدتم في نتاجنا المحلي الأخير مثل ذلك؟