استثمار نجومية اللاعبين، والتأسيس لثقافة انخراط اللاعب والنادي في الهموم والأدوار الاجتماعية والوطنية، تحتاج إلى نموذج إداريين مثقفين من طراز عبدالرحمن بن مساعد فهي التي تبقى في سجله

انقطعت صلتي بمتابعة الدوري المحلي لكرة القدم، وأخبار الرياضة في السعودية عموماً، مذ خمس وعشرين سنة خلون، طلقت فيها الكرة وتشجيع فرقها تماماً، وانخرطت في القراءات والهموم الفكرية والشرعية، وقد كنت قبلاً أصخب –وجيلي- بالكرة، متابعة وممارسة، وما زلت أذكر الدوري الكروي الذي يقيمه نادي (عكاظ) العتيد بمدينة الطائف، في مثل هذه المواسم من رمضان، في بدايات الثمانينيات الميلادية من القرن الفارط، عندما كانت مؤسسات الدولة وملوكنا الكرام يقضون الفترة الصيفية في عروس المصائف، وتتحول المدينة الوادعة طيلة العام إلى مدينة صاخبة بالأنشطة والفعاليات في فترة الصيف، ويقيم ناديا (عكاظ) و (وج) فعاليات ومراكز صيفية تستوعب الشباب والنشء ليقضوا أوقات فراغهم بالمنافسات والألعاب.
وكانت التماسات تحدث بين شباب المدينة، الذين كان معظمهم –إذاك- يميل للنادي المتسيّد أبداً على البطولات، وقصدت به النادي الأهلي؛ أهلي دابو وأحمد الصغير وإبراهيم مريكي والخوجلي، فيما كان كاتب السطور، من خيبته وسوء حظه الشديد؛ يشجع نادي الاتحاد، اتحاد عيسى خواجي وعلي عشعوش وسعد بريك، في تلك الأزمنة الممحلة لهذا النادي الذي كان يتلقى الهزائم تلو الهزائم، ونلوك الحسرة –نحن مشجعوه- ونهرب من لداتنا وسخرياتهم، وكنا إذا حقق الاتحاد التعادل مع الأهلي؛ اعتبرناه فوزاً، وتهنا به دهراً من بؤس حال الفريق. في مقابلنا، كان غالبية المصطافين القادمين مشجعين –بالطبع- لنادي الهلال، هلال ريفيلينو وسلطان بن نصيب وفهودي والغول، الذي كان بدوره بطلاً -والحقيقة استمر بطلاً طيلة كل تلك السنين- وبسبب التعصب؛ تلقانا كارهين لهذا النادي ومشجعيه، وللأسف ألفيت ذلك الكرْه مدفوناً في اللاوعي ومتجذراً لدي حتى قبل أسبوع.
الذي دعاني لاستحضار تلك الصورة التي مضى عليها أكثر من ربع قرن، هو خبر قرأته لرئيس نادي الهلال الأمير عبدالرحمن بن مساعد يعلن فيه عن تبرع ناديه بمبلغ 750 ألف ريال لضحايا الفيضانات في باكستان، مما أعاد الضوء إلى الأدوار الاجتماعية المهملة للأندية الرياضية، وسرّني ما بادر به نادي الهلال أيضاً، من إقامة مسابقة للقرآن الكريم، وكم حمدت لسموه ولناديه هذه المبادرة الخلاقة التي تجيّر لهذا النادي العملاق.
هذه المبادرات لا تأتى إلا لإداري مثقف-ليس رجل أعمال أبداً- وعبدالرحمن بن مساعد مثقف، وأحد ألمع الشعراء الشعبيين من ذوي الموهبة الشعرية، وبالمناسبة؛ أنا أدين للرجل أيضاً أنه جعلني من المتذوقين للشعر النبطي أو الشعبي؛ فقد استمعت لمقاطع شعرية آسرة له، قبل توليه منصبه كرئيس لنادي الهلال، وكنت حفياً بتلك الرسالية والجرأة اللتين تضجان في كثير قصائده، وكنت أوزعها في مجموعتي البريدية، افتتاناً بها. وعودة لموضوعنا الأصل؛ لأتمنى على سموه التأسيس لمبادرات خلاقة، تكمن في استثمار اسم النادي الكبير ونجومية لاعبيه في تحجيم هذا التعصب الذي اجتاح ساحتنا الوطنية، ووصل إلى مدى غاية في السوء، وها أنا مثال ونموذج لتعصب بسيط، لا يقارن أبداً بما نشهده اليوم ونتلمسه في الساحة. فرغم مضي ربع قرن؛ إلا أن ذلك النفور ظل محفوراً للنادي ونجومه، فليت سموه يبادر من هذا الصرح الرياضي الشامخ في حملة مركزة، يستعين فيها بدعاة ومفكرين وشعراء شعبيين ونجوم فن في حملة ممنهجة تستمر أعواماً ضد هذه الآفة، وستقتدي به بقية الأندية؛ لأن الحملة على التعصب الرياضي باتت هدفاً وطنياً عاماً.
من جانب آخر؛ أطرح إمكانية استثمار نجومية اللاعبين في العمل التطوعي والخيري، وزيارات المرضى، ودعم التبرعات لجمعيات الإعاقة والحالات الخاصة، ومراكز أمراض الكلى، ودعم الأنشطة الاجتماعية المتعددة التي تدخل في صميم هذه الأدوار، وكم تمنيت لو أن رؤساء الأندية الكبار الأربعة أقاموا مباريات لأنديتهم في أوج كارثة جدة، وجعلوا دخلها لمتضرري سيولها، واستثمرت نجومية اللاعبين في دعم حملات الإغاثة لأهالينا المنكوبين.
اللاعبون بنجوميتهم يصلون ويؤثرون في شرائح؛ لا يستطيع المسؤولون ولا الدعاة ولا الإعلام الوصول إليها، والتأثير فيها، ودونكم اللاعب الرسالي الفذ محمد أبو تريكة وما فعله بنجوم مصر، الذين ما إن يسجل أحدهم هدفاً إلا ويهوي ساجداً لله، في مشهد إيماني ورسالة دعوية عالية أثـّرتا في الآلاف، وما فعله مثلاً من تضامنه مع غزة في بطولة أفريقيا، جاعلاً الإعلام الإسرائيلي يقوم ويقعد، ونحن نسمع اليوم عن أفضل حارس في العالم (ايكار كاسياس) وهو يعلن تضامنه مع سفينة الحرية.
ما قصدته، هو استثمار نجومية اللاعبين، والتأسيس لثقافة انخراط اللاعب والنادي في الهموم والأدوار الاجتماعية والوطنية، وهذه تحتاج إلى نموذج إداريين مثقفين من طراز عبدالرحمن بن مساعد، فهي التي تبقى في سجله، لا ترادحاته مع إدارييّ الأندية المنافسة التي تظل بقعاً سوداء شائهة بمجرد رحيله، بينما المبادرات الكبيرة ستسطر بأحرف من نور، تسطع أبداً في ذاكرة الأجيال والتاريخ.