نظرية رولز للعلاقات الدولية مدفوعة بواقع وأمل: الواقع هو وجود الشر في العالم؛ الحروب والاستبداد والمجاعات والكوارث البيئية، والأمل هو أن العلاقات العادلة بين الشعوب ستخفف من هذا الواقع
نشر رولز كتابه الأساسي نظرية في العدالة سنة 1971 وكان محوره الجوهري مجتمعا معيّنا داخل نظام سياسي واحد. منذ ذلك الوقت والتساؤلات تطارده حول العلاقة بين هذا المجتمع الذي وضع نظريته للعدالة وبين مجتمعات أخرى تخضع لأنظمة ومفاهيم مختلفة عن العدالة. هل يمكن تمديد نظرية العدالة لتشمل العالم؟ أم أنها نظرية محدودة في إطارها الخاص وبالتالي نحتاج إلى نظرية أخرى للعلاقات الدولية؟ المبدأ الأول من نظرية رولز كوني بينما المبدأ الثاني محدود بتصور خاص للمجتمع. قدم رولز هذا التصور متأخرا في كتابه The Law of Peoples قانون الشعوب سنة 1999. يرفض رولز، متفقا مع إيمانويل كانت، فكرة دولة واحدة تحكم العالم لأنها ستؤدي إلى دولة مستبدة أو محاصرة بعمليات انفصال مستمرة. يبدو أن خلف هذه الفرضية دعوى أن شعوب الأرض على تباين حادّ لن يسمح لها بالاتفاق على نظام سياسي واحد. لذا فنظرية رولز فيما يتعلق بالعدالة الاقتصادية وتكافؤ الفرص دولية وليست كونية. بمعنى أنها لا تفترض مفهوما واحدا للعدالة يجب تطبيقه على مستوى كوني بقدر ما تقدم تصوّرا للعلاقات العادلة التي يجب أن تحكم العلاقات بين الشعوب على مبدأ المساواة بينها. الفاعلون في نظرية رولز ليسوا الدول ولا الأفراد بل الشعوب. الدول بالنسبة له ليست كائنات أخلاقية يمكن اعتبارها مصدرا للمسؤولية الأخلاقية. القانون الدولي أيضا لا ينطلق من اتفاق أفراد بل من اتفاق ممثلين للشعوب يفترض أن يمثلوا الأفراد. هذه الشعوب تنطلق في علاقاتها الدولية بحسب رولز لتحقيق أهداف منها حماية أرضها وأفرادها، الحفاظ على مؤسساتها وثقافتها، و الحصول على الاحترام المتبادل مع باقي شعوب الأرض.
نظرية رولز للعلاقات الدولية مدفوعة بواقع وأمل. الواقع هو وجود الشر في العالم؛ الحروب والاستبداد والمجاعات والكوارث البيئية، والأمل هو أن العلاقات العادلة بين الشعوب ستخفف من هذا الواقع. هناك في الأخير علاقة بشرية تجمع هذه الجماعة الواحدة المسماة جماعة البشر. هذه العلاقات بين الشعوب تحتاج إلى تأسيس لمشروعيتها لأنها في الأخير ستؤدي إلى نتائج وأفعال على أرض الواقع. على سبيل المثال لا يجب على العالم أن يقف متفرّجا أمام مجازر عرقية أو دينية ترتكبها جماعة ضد جماعة. هذا التدخل العالمي يحتاج لأن يؤسس على معايير واضحة للعدالة.
يستخدم رولز في العلاقات الدولية منهجية مقاربة لنظريته في العدالة. بمعنى أنه يبدأ من حالة افتراضية في الموقف الأساسي يحضر فيها ممثلو المجتمعات وهم خلف حجاب الجهل ليحاولوا الخروج بقوانين عادلة للجميع. يراهن رولز على أن هؤلاء الممثلين سيصلون إلى تأسيس البنية الأساسية للعلاقات الدولية على ثمانية مبادئ أو مبادئ مقاربة لها:
أولا: كل شعب حرّ ومستقلّ وحريته واستقلاله يجب أن تكون محترمة من كل الشعوب الأخرى.
ثانيا: الشعوب لها حق إجراء الاتفاقيات والمعاهدات.
ثالثا: الشعوب متساوية كأطراف في المعاهدات التي يعقدونها.
رابعا: للشعوب حق عدم التدخّل.
خامسا: للشعوب حق الدفاع عن نفسها ولكن ليس لها الحق في بدء أي حرب لغير الدفاع عن النفس.
سادسا: يجب على الشعوب احترام حقوق الإنسان.
سابعا: لكل شعب مراعاة ضوابط خاصة على الحروب.
ثامنا: على كل شعب واجب المساعدة للشعوب الأخرى التي تعيش تحت ظروف تمنعها من الحصول على أنظمة سياسية أو اجتماعية عادلة.
هذه القائمة يتبناها رولز من مفكرين آخرين ويعتبرها تحتاج لإضافات وتدقيق، ولكنه يعتبرها جيدة كأساس لمبادئ العدالة الدولية لديه. هذه المبادئ يفترض أن تحكم العلاقات بين نوعين من الشعوب. أولا الشعوب الليبرالية. أي الشعوب التي تتمتع بمؤسسات ديموقراطية واحترام للتعدد وقدر عالٍ من المساواة بين المواطنين. ثانيا: الشعوب المعقولة أو المقبولة بشكل عام. النوع الثاني يشمل مجتمعات غير ديموقراطية بشكل كامل ولكنها تعطي أفرادها حق المشاركة السياسية. يوجد في هذه المجتمعات تمييز ديني أو عرقي أو جنسي ولكنها بحسب رولز تملك قدرا أو حدّا أدنى من احترام حقوق الإنسان والانتظام واحترام حق الأفراد في الهجرة والمغادرة. هناك مجتمعات أخرى يبدو أنه يتعذّر التعاقد معها وهي أولا الدول الخارجة عن القانون مثل النظام النازي أو المجتمعات التي تخضع لظروف حادة كالكوارث الطبيعية تجعل من قيام مؤسسات في المجتمع متعذّرة. ثالثا: الدول المستبدة التي تحرم مواطنيها من أي مشاركة سياسية مما يجعلها مجتمعات غير مستقرّة. مبدأ التعامل بين الشعوب الليبرالية والشعوب المعقولة عند رولز هو المساواة واحترام الاستقلال. هذا المبدأ يوازي المبدأ الأول في نظرية رولز المحلية وهو حقوق متساوية لجميع أفراد المجتمع المحلي. المجتمعات في العلاقات الدولية يوازون الأفراد في العلاقات المحلّية. في المقابل مجتمعات العالم لها الحق في الدفاع عن نفسها تجاه الدول الخارجة عن القانون أي الدول التي تنطلق في حروب هجومية على أي مجتمع آخر. كذلك المجتمعات العالمية عليها واجب دعم ومساعدة المجتمعات التي تمرّ بكوارث طبيعية من أجل مساعدتها للوقوف من جديد وتنظيم مجتمعاتها بشكل معقول ومقبول.
يبقى السؤال الكبير والذي سيكون محور نقد هائل لرولز، حول موقف نظريته في العدالة الدولية من الفروقات الاقتصادية بين المجتمعات؟ نعرف أن المبدأ الثاني في نظرية رولز المحلّية يؤكد على أن أي تمييز يجب أن يكون في صالح الطبقات الأدنى في المجتمع مما يكفل لهم تكافؤ الفرص في المجتمع. الطبقات الأعلى يجب أن تمنع من أي امتياز. هل هناك التزام من منظور العدالة على المجتمعات الغنية تجاه المجتمعات الفقيرة؟ لا يوافق رولز ويحصر الالتزام فقط في تأمين الحد الأدنى من حقوق الإنسان. لاحقا سأعرض نقدا لموقف رولز تجاه العدالة الكونية وواجبات الشعوب الغنية تجاه الشعوب الفقيرة المحتاجة. بحسب رولز تتوقف حقوق الشعوب تجاه بعضها على المساواة والاحترام المتبادلين وتأمين أساسيات حقوق الإنسان لا أكثر.