كل عام ومع نهاية كل فصل دراسي نعود إلى الخانة الأولى وكأننا لم نتعلم، وكأن كل ما كتب وكل ما نوقش على صفحات الصحف والمجلات، وكل ما قدم من توصيات في الدراسات والمؤتمرات لم يكن سوى للتسلية وقضاء الوقت!
تعالوا لندرس الوضع الآني سويا؛ أعلنت حالات الاستنفار في البيوت والمدارس وكأننا داخلون على حرب ضروس، لا مجرد التعرض لأدوات تقويم من أجل التعرف على نقاط الضعف لعلاجها ونقاط القوة لتعزيزها، ويبدأ التهديد والوعيد، وتنتشر الملخصات وتباع في كل مكان، إنه موسم أعلن وربحه أكيد، وما نراه ونتلمسه يشير إلى أنه أشبه بـمولد وصاحبه ضايع! وطبعا لا ننسى تجييش حصص الدروس الخاصة للأفراد والمجموعات، لمواجهة عقول لم يتم تحريكها بأساليب تدريس تجعلها تبحث عن المعلومة بمفردها لتكتسب المهارة والقدرة على الربط والتحليل والإبداع في إخراج أفكار جديدة، بل يتم الانتظار لفترة ما قبل الاختبارات للحشو بأقصر وأسرع وقت، وكأننا كنا نضعهم في المدارس من أجل التخلص منهم وترك التعامل معهم لغيرنا، ثم نستيقظ لنتولى الأمر بأنفسنا متذمرين من التقصير، من الحارس للوزير، بمعنى من الجميع إلا من أنفسنا طبعا!
فجأة تتحول المدارس إلى معسكرات، لجان ملاحظة وترتيبات لقاعات الاختبارات التي كانت قبل يوم فقط تسمى فصلا دراسيا، وأرقام دخول وأوراق توقيع وجداول مواد، والتلميذ والطالب يتابع كل ذلك برعب فيتجه للمنزل طالبا السند والعون فيجد حرب داحس والغبراء قد بدأت في أسرته، كل يتهم الثاني بالتقصير، وكل يعدد ما قام به من أجل الأسرة ولم يجد من يقدّر أو يحتوي! ومنهم من يعود إلى منزل فلا يجد فيه غير صدى صوته، فالكل مشغول بحياته عنه، فيتجه لخارج المنزل ويقع بأيدي من يجره إلى الضياع! لا أعلم من منهم أسوأ حالا: النوع الأول أم الثاني!
أما من يعيش على المراكز والتنافس بأي طريقة المهم ألا يخسر ولا حتى ربع علامة، يعذب نفسه ويعذب أسرته بحالات الهستيريا التي تعتريه قبل وبعد الانتهاء من كل امتحان لمجرد شكه بأنه قد يكون خسر جزءا من درجة، وليست المشكلة هنا فقط، فإنه يحمل هذا الفكر وهذا السلوك إلى مدرجات الجامعة، ولا يهتم بأي شيء من المحاضرة سوى بكيف سيكون الاختبار وما هي المعلومات التي سوف تكون في الاختبار! وعليكم فقط تخيل تأثير هذا النوع من التفكير وخطره على السلوكيات، خاصة في مجال سوق العمل فيما بعد!
وطبعا هكذا دراسة تحتاج لدراسة ونشاط غير طبيعي، ومن أين يأتي سوى من منبهات طبيعية وغير طبيعية، فتنتشر الوصفات السريعة التي تساعد على بقاء العقل متيقظا وقابلا لتحمل كل هذه الكمية من المعلومات، والأخطر انتشار حبوب منشطة ومروجيها -أصحاب النوايا الحسنة- ممن يريدون الخير لأبنائنا ومساعدتهم على تخطي هذه الفترة العصيبة من السنة الدراسية، لا يهمهم السن أو المستوى المعيشي، شعارهم ادفع ستجدنا في خدمتك، وتصرفوا يا طلبة ويا تلاميذ ولا تنسوا أن كل شيء مباح طالما الهدف سام! وقد يُلاحظ التغير في سلوكيات الأبناء أو مظهرهم، بل إننا لو نظرنا إلى أعينهم سنلاحظ أكثر من ذلك بكثير، ولكننا جاهزون بالإجابة: إنها فترة الاختبارات وكل ذلك من المذاكرة!
ولكن.. أين سيصرف كل هذا التشنج أو كل هذه الطاقة بعد الاختبار اليومي؟! طبعا في الشوارع والأسواق، والأخطر إن كانت بين أيديهم سيارات تتحول إلى مركبات الموت؛ سباقات وتفحيط وسرعة جنونية في شوارع ضيقة وعامة! ونخسر شابا بعد شاب، لا يكفي أن نسب خسارتنا من الموت والدمار من الحوادث في جميع أيام السنة التي قد تتعدى نسب ضحايا حرب أهلية، بل يضاف إليها نسب خسارتنا للشباب في عمر الورد في فترة الاختبارات، درس لا نريد أن نتعلمه أو نعالجه!
لن أقول نحن بحاجة إلى توعية أو إلى حملات تثقيف، فقد قيل كل ذلك وأكثر، ما سأقوله هو لن يتغير شيء طالما نحن نتعامل مع مشاكلنا على جميع أنواعها على طريقة حارة كل مين إيدو إلو، أي كل جهة تعمل بنفسها وعلى طريقتها ومصلحتها؛ الأسرة.. المجتمع.. المؤسسات التعليمية، مؤسسات الثقافة والإعلام، والوزارات المعنية؛ كل فرد منا مسؤول، وكلٌّ له دور في البحث وتقديم الحلول المنطقية والعملية والفاعلة، قد لا نكون عباقرة وبالتأكيد لا نمتلك عصى سحرية تغير الأحوال كما نريد ونتمنى، ولكننا حين ندرك ونعترف لأنفسنا على الأقل، بأن لنا دوراً مهما كان صغيرا في إحداث تغير إيجابي، ونعمل على تحقيقه، ولا نقف هنا فقط، بل ننقل خبراتنا إلى آخرين مثلنا، ستبدأ مسيرة المواجهة.. قد لا يحدث التغير فجأة، ولكن شيئا فشيئا سيتم إلى أن يأتي اليوم الذي سنتابع فيه إبداعات أبنائنا، لا نسب وأرقام من خسرنا منهم للأزمات أو لا سمح الله الموت!