القمح 'الغذاء' دخل على خط اللعبة السياسية العالمية باقتدار والتعامل معها يتطلب دورا يتعدى وزارة الزراعة وبحاجة لسياسة خارجية تتعامل مع هذه الوقائع الجديدة على الساحة العالمية

أعاد قرار روسيا حظر تصدير القمح حتى نهاية العام الجاري بسبب حرائق الغابات ودرجات الحرارة المرتفعة التي تسببت في قحط الأراضي الزراعية الحديث عن ملامح ظهور أزمة غذاء عالمية جديدة، ونظرا لأن روسيا أحد أكبر عشرة مصدّرين للقمح في العالم بإنتاج يقارب في المتوسط 10% من حجم الإنتاج العالمي يذهب 20% منه إلى أسواق أوروبا والشرق الأوسط، فإنه لا شك سيكون لمثل هذا القرار تبعات عميقة على سوق الغذاء العالمي وفي منطقتنا تحديدا نظرا لكوننا من أكثر المستوردين والمستهلكين العالميين عرضة للانكشاف على هذه السلعة الرئيسة.
نظرا لذلك جاء تحرك معالي وزير الزراعة السعودي الدكتور فهد بالغنيم سريعا في طمأنة الرأي العام بأن المملكة تفادت أزمة القمح العالمية وأن المؤسسة العامة لصوامع الغلال وقعت عقودا لتوريد مليون طن من القمح تسد احتياج المملكة وتصل على دفعات حتى شهر أبريل القادم (الوطن بتاريخ 15 /8 /2010)، كما سبقه المهندس وليد الخريجي، المدير العام للمؤسسة العامة لصوامع الغلال بتأكيد أن مخزون المملكة يصل إلى 2.5 مليون طن منها 1.5 مليون طن في مخازن الدولة. وأكد كذلك وجود خطط تطويرية طموحة للمؤسسة (الشرق الأوسط بتاريخ 10 /8 /2010). وبالمقارنة مع الأداء في عام 2008 خلال أزمة الغذاء العالمية فإن هذا التحرك السريع لكليهما يجب تقديره والإشادة به.
على أن تحركهما السريع على الصعيد الإعلامي وعلى صعيد تأمين شحنات القمح يظل في السياق العام أشبه بتحرك طبيب في غرفة الطوارئ، الهدف الأول منه هو استيعاب الصدمة وتخفيف الألم الوقتي الذي يشعر به المريض وتضميد الجراح حتى يتمكن الطبيب الاستشاري من تقديم العلاج الفعّال طويل الأمد، وهنا يكمن مربط الفرس في تعاملنا مع أزمات الغذاء بكل أنواعها وفي كل أوقاتها، فتعامل وزارة الزراعة مع المسألة تعامل رائع على المدى القصير حيث الأهم هو تأمين الإمداد، ولكن ما الذي ليست بأي حال من الأحوال دولة زراعية؟ فالمهندس وليد الخريجي أكد في حواره أن المملكة تستهلك بين 2.8 إلى 3 ملايين طن من القمح سنويا وأن مخزونها الاستراتيجي يقدر بستة أشهر من الاستهلاك فقط.
لا يجب تحميل وزارة الزراعة كامل المسؤولية للتعامل مع هذا الملف الحساس نظرا لأن المسألة تتعدى مجرد عمل وزارة الزراعة حيث باتت قضية الغذاء قضية سياسية في المقام الأول وأصبحت دبلوماسية الغذاء (food diplomacy) ذات أبعاد أعمق من مجرد التموين وتأمين إمدادات السلع الرئيسة.
روسيا لديها مخزون استراتيجي يكفي احتياجاتها الداخلية، إلا أنها على مدى السنوات القليلة الماضية انتهجت نهجا يطمح لجعلها أحد أكبر مصدري القمح في العالم وأن يكون الغذاء الذي تصدره أحد أدوات سياستها الخارجية، وعقب صدور قرار حظر التصدير طلبت روسيا من كل من كازاخستان وبيلاروس أن يفرضا حظرا على تصديرهما للقمح، فكازاخستان تعد أيضا أحد أكبر عشرة مصدرين للقمح في العالم وتقوم بتصدير ما يقارب 50% من إنتاجها إلا أن القحط الذي أصاب روسيا طاولها وربما يؤدي لخفض إنتاجها بحوالي الثلث، ولكن تشير التحليلات إلى أن الطلب الروسي من كازاخستان بإيقاف تصدير القمح ليس نابعا من تخوف روسي من نقص إمداداتها الداخلية بقدر ما هو تحرك سياسي في المقام الأول.
إن روسيا يجمعها مع كل من كازاخستان وبيلاروس وحدة جمركية تستخدمها روسيا كأداة جيوسياسية مثل ما حدث عندما طلبت منهما حظر استيراد الماء والنبيذ من جورجيا ومولدوفا المواليتين للغرب والواقعتين في الفضاء السياسي الروسي، روسيا ليست بحاجة للقمح الكازاخي ولكنها تسعى من خلال هذه الأزمة إلى تدعيم إنشاء كارتل (اتحاد احتكاري) للقمح على غرار المنظمات الأخرى التي تملك سلطة التحكم بالإنتاج والأسعار مثل منظمة أوبك، وهي تخطو خطوة أخرى باتجاه الطلب من أوكرانيا ـ أحد أكبر عشرة مصدرين ـ حظر تصدير قمحها، ورغم أن أوكرانيا ليست عضوا في الاتحاد الجمركي السالف إلا أن سياساتها خضعت مؤخرا للسيطرة الروسية السياسية.
ما يوضحه هذا الأمر هو أن القمح/الغذاء دخل على خط اللعبة السياسية العالمية باقتدار والتعامل معها يتطلب دورا يتعدى وزارة الزراعة وبحاجة لسياسة خارجية تتعامل مع هذه الوقائع الجديدة على الساحة العالمية فيصبح لتأمين الغذاء ملف مهم لدى مصنع السياسة الخارجية، وهذا الأمر يفتح وبقوة باب الحديث عن ضرورة التفعيل الحقيقي لدور مجلس الأمن الوطني كمظلة جامعة للوزارات والهيئات المتخصصة بحسب كل أزمة حيث إن التنسيق بين مختلف الجهات ذات الاختصاص في كل أزمة هو العمود الفقري للنجاح ولتفاديها، فالسياسة الخارجية في هذه المسألة ليست سوى ذراعا من ضمن عدة أذرع وإن باتت الذراع الأهم اليوم، ومجلس الأمن الوطني يجب أن يكون نقطة الانطلاق للتعامل مع هذه الأزمة على المدى الطويل، فالغذاء قضية أمن وطني بكل ما تعنيه الكلمة، وتأمين الغذاء اليوم لم يعد مجرد عملية شراء واستيراد له ولو حتى بأعلى الأسعار.