التراث الشعبي قيمة إنسانية وثقافية تخلّفها الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة؛ لتكون دليلاً مادياً أو معنوياً على الوجود في حقبة زمنية معينة، وبذلك يكون هو الجسر الذي يربط بين الفترات والحقب الزمنية السحيقة للإنسان. وبما أن التراث يتكون من جزأين: مادي كالشواهد والآثار الحضارية والتاريخية، وغير المادي الذي يمثله التراث الشفوي، حيث تعتبر الحكايات والأهازيج والأغاني الشعبية من أهم مكونات هذا التراث.
تهتم معظم المجتمعات اليوم بتراثها الشعبي الشفوي المتوارث بين الأجيال، وتسعى إلى توثيقه من خلال الحكايات الشعبية التي تعتبر هي المدخل الرئيس إلى ذاكرة الشعوب، تبدأ من مراحل الطفولة، حيث تحكي الجدات والأمهات لأطفالهن هذه القصص للتسلية لكنها تبقى في ذاكرتهم يورثونها إلى أبنائهم وأحفادهم.
أما المحك الرئيس في قضية التراث والمحافظة عليه، هو تلك الهوة التي تفصل جيل الأبناء والأحفاد عن جيل الآباء والأجداد، وتزداد اتساعاً مع الزمن حتى يكون التراث المحكي في مهب الريح! إذ إنه من دون التدوين والتجسيد لهذا التراث الشفهي لا يمكن أنه يبقى منه شيئاً في ذاكرة المجتمع، ولا سيما في عصرنا الحالي الذي هو عصر إلكتروني بامتياز لا يبقى فيه إلا ما يدوّن ويحافَظ عليه بعناية فائقة.
وبالنسبة لنا في المملكة، تتميز رقعة البلد الثقافية والجغرافية والاجتماعية باتساع كبير وثراء وتفاوت في الثقافات المحلية، ما بين مناطق الشمال والجنوب والوسط والشرق والغرب. ولكن هذا الامتداد والثراء الثقافي لم يستثمر بشكل منظم وعلمي؛ ولذا ليس غريباً أن نراه اليوم يصاب بالجفاف والجفاء، إن لم يكن في طريقه إلى الاضمحلال ما لم تكن هنالك جهود واضحة لرصد هذا التراث الشفوي وتدوينه وإعادة إنتاجه في صيَغ جديدة ومناسبة للأجيال السعودية الحالية في مختلف المناطق.
والذي أنا متأكد منه أنه لا تنقصنا أبداً الإمكانات المادية والبشرية، بقدر ما تنقصنا الرؤية الشاملة أولاً، ثم التنظيم والعمل الميداني (التطبيق) ثانياً، على أنه لا بد من الإشارة بوضوح إلى ندرة العمل المنظم في مجال التراث الشعبي، على الرغم من وجود عدة جمعيات حكومية وأهلية تعمل في مجال الثقافة والفنون واللهجات والتراث الشعبي، مثل: الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، وهي هيئة حكومية إن جاز التعبير، لكن جهود فروعها في المناطق تكاد أن تكون جهوداً فردية تخضع لنشاط رئيس وأفراد الفرع واهتماماتهم الثقافية، لكن الشكوى الدائمة لها أنها تفتقر إلى الدعم المادي والكادر الثقافي!
أما الجمعية السعودية للمحافظة على التراث فلديها رؤية ورسالة وأهداف جيدة، ولكن رغم أنها ستبلغ هذا العام 4 أعوام من إنشائها إلا أن جهودها المبذولة لم تصل بعد إلى عمق المجتمع الممثل لهذا التراث بطريقة تشجع على صيانته وتدوينه والمحافظة عليه، ولا سيما أن مؤسسات المجتمع المدني، التي يفترض أن يعنى بعضها في المحافظ على التراث، ما زالت مشروعاً مؤجلاً.
وبالنسبة لـالجمعية السعودية للهجات والتراث الشعبي في جامعة الملك سعود، فلديها جهود جيدة أيضاً إلا أني لا أعتقد أن إمكاناتها المادية تستطيع القيام بمشروع مهم مثل رصد الحكايات الشعبية المختلفة بين المناطق كجزء من تراثنا المنسي!
وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلا بد، عند الحديث عن تراثنا الشعبي، أن تستحضر ذاكرتنا الثقافية الجهود الفردية، ومنها على سبيل المثال جهود الكاتب والأديب والباحث الكبير الأستاذ عبدالكريم الجهيمان - رحمه الله - الذي أصدر عملين ضخمين هما: موسوعة الأساطير الشعبية في شبه الجزيرة العربية في خمسة أجزاء، وموسوعة الأمثال الشعبية في عشرة أجزاء. وكذلك جهود الدكتور سعد الصويان، الباحث في التاريخ الشفوي والشعر النبطي في الجزيرة العربية الذي أصدر عدة كتب وبحوث في هذا المجال.
ويمكن أن نحافظ على جزء مهم من تراثنا الشفوي السعودي بتدوينه وإعادة إنتاجه كما وُجد، وأظن أنها تجربة تستحق الخوض، ويمكن الانطلاق بها من خلال مشروع يعنى بـ(رصد الحكايات والقصص الشعبية السعودية) في كل المناطق السعودية، وإعادة تقديمها للجيل الحالي من جهة وللأجيال في العالم من جهة أخرى، إذ إن الحكايات والقصص الشعبية تعتبر رصيداً يجهله الكثير من أطفالنا اليوم، رغم ما فيها من مبادئ تربوية وتجارب إنسانية، وما فيها أيضاً من تسلية وترفيه، بل وما فيها من أسطرة ذات دلالات ثقافية وفكرية.
وفي هذا الصدد، لنتذكر التجربة اليابانية الفردية في رصد وإعادة إنتاج الحكايات القديمة من العالم خلال مسلسل الأطفال الكرتوني (حكايات عالمية) الذي يروي في كل حلقة قصة عالمية من قصص شعوب العالم، أنتجته إحدى الشركات اليابانية خلال الفترة (1976-1977) وقد أعيد إنتاجه بشكل رائع عن طريق الدبلجة إلى عدة لغات ومنها اللغة العربية. فمثل هذا العمل هو أنموذج غير حصري بطبيعة الحال، يمكن أن نستفيد من تجربته لنقدم تجربة مشابهة أو مغايرة سواء للأطفال أو للكبار للحفاظ على شكل من أشكال تراثنا الشعبي.