المعضلة ليست في وجود تيار شعبي يرفع شعار الانفصال، ولكن في المواقف الانتهازية التي تتبنى الدفاع عن الوحدة، انطلاقا من رصيدها البائس وممارساتها العبثية في حق المحافظات الجنوبية والشمالية على حد سواء
مشكلة اليمن لا تكمن في الإزاحات المرحلية التي يمارسها طرف ضد آخر، حسبما تسفر عنه كل جولة من جولات الصراع، ولكنها تتمثل أكثر ما يكون في عملية الإخلاء والإحلال بين هذه القوى مجتمعة من جهة؛ وإفرازات الواقع الاجتماعي من الأخرى، كما هو الحال في انتقالات بعض التكتلات السياسية من وضع وتوجه ما إلى نقيضهما بطرق دراماتيكية فيها من الخفة وملكات التقلب غير المهذب ما يعكس حجم الاضطراب القيمي الذي تقضي البلاد تحت وطأته ظروفا هي الأسوأ في تاريخها الوسيط والمعاصر.
خلال الفترة 2006-2009 كنت وآخرين نذرع المحافظات الجنوبية طولا وعرضا في لقاءات نخبوية وشعبية لا تتوقف؛ بغية الوصول إلى قناعات مشتركة تحدد ماهية الخصائص الفارقة بين من نطلق عليه أو هو ينعت نفسه بالوحدوي، ومن يدعى انفصاليا أو يخلع على مواقفه نعت الانفصالية.
بيد أن حقب الاضطراب تأتي على الأبصار فتعميها وعلى القلوب فتحكم إقفالها، وعلى السياسة فتملؤها بالخيالات المريضة وطفح التهيؤات المعتلة ليصبح الزبد المركوم حقيقة، وما ينفع الناس موضع استهانة واستخفاف. إذ كيف يكون المدافع عن حقه العادل في الشراكة والثروة والثائر ضد سياسات الإقصاء انفصاليا بينما يتقلد شرف التعبير عن الوحدة أكثر القوى تورطا في الإجهاز على مشروع الدولة، والنيل من الحقوق والحريات والإساءة لقيم المساواة والعدالة وسيادة القانون.
اليوم ومارثونات الحوار الوطني على وشك الختام!! هل تدلنا مخرجاته لبدايات مختلفة من ملهاة الإخلاء والإحلال السابقتين أم نشهد معها لونا اشتقاقيا يحيل المكارثية السياسية عن نطاق الصراع الحزبي إلى مستوى التأصيل الجغرافي والمؤسسي والدستوري..؟
شأن الوحدة اليمنية لا يختلف شيئا عن مجمل القيم الحياتية والدينية والإنسانية، التي ترقى إلى مصاف القداسة المجردة، أما الالتزام لتمثلاتها المادية في ممارسات النظام الحامل مضامينها، فإنه يتحدد وفقا لمصالح المجتمع، ولطالما أفسدت نظم الحكم العربية بممارساتها السيئة قيما سامية، وجعلت منها منابر تطرف ومعابر استبداد ومسوغات إفساد.
فهل يكون الغد كالبارحة، ويغض الطرف عن جذر المعضلة اليمنية لنلقي تبعاتها على الوحدة بدلا عن التخلف وفساد الحامل السياسي لقيم الدولة الوحدوية ونمط الوصفات العفوية التي اقترنت بإعادة تحقيقها.
وهل بلغ مستوى اضطراب القيم وفساد المفاهيم حد الإضرار بفطرة الإنسان وذائقته العفوية لمعرفة الخيط الأبيض من الأسود، وتمييز الغث من السمين والعذب الصائغ من الملح الأجاج؟ أليس هذا الاضطراب هو الحالة المرئية من مواقف القوى السياسية تجاه القضية الجنوبية!!
ولأن التسوية السياسية قيدت مظالم المجتمع ضد مجهول، ولم يعد أمام المخاتلات الحزبية من عمل غير خلط الأوراق وتكريس ظاهرة الإخلاء والإحلال، حيث يتنازل أحد الفرقاء عن تاريخه النضالي لصالح نقيضه بينما يذهب أحد مكونات الحوار للتوقيع على الوثيقة من باب التقية، ثم يعهد لأطره الداخلية بالتحريض عليها، وهنا تصبح الوحدة نشيجا واهنا تطلقه الأغلبية الصامتة في لحظة وجوم وانكسار!
المعضلة ليست في وجود تيار شعبي يرفع شعار الانفصال، ولكن في المواقف الانتهازية التي تتبنى الدفاع عن الوحدة انطلاقا من رصيدها البائس وممارساتها العبثية في حق المحافظات الجنوبية والشمالية على حد سواء. حسب الضحايا ألما إفلات الجاني من العدالة، أما وهم يرغمون على القبول به مترافعا عنهم فتلك أم الدواهي!!
في 11 سبتمبر العام الماضي والجدل البيزنطي في أوجه ومشارط التقسيم أكثر العملات تداولا، تناهي صوت عاقل من محافظات الشمال ينادي بتجاوز صيغ المناصفة الشطرية، وإتاحة الفرصة أمام الجنوب لإعادة بناء دولة الوحدة وتصحيح مسارها، لكن مارثونات الصراع لا تصغي لصوت الحكمة، ولا يعوزها عقل كالذي وسم دعوة بعض الضحايا من أبناء المحافظات الشمالية وهم يقولون نحن لم نجرب الوحدة فكيف نحكم لها أو عليها؟ وما حدث في 90 حتى 2011 هو الاعتداء على الوحدة والسطو على حلم اليمنيين بوعدها الحضاري قبل تحويلها إلى مشروع للاستحواذ ومنجم للضغائن والأحقاد.. وخلال العقدين الماضيين غدا ذاك الحلم المتوهج ستارا تتوارى خلف واجهته عقلية انفصالية شوهت مفاهيم الناس وغيرت موازين وتوجهات قوى المجتمع اليمني وجعلت الوحدوي انفصاليا والانفصالي وحدويا.. نحن الشمال المثقل بأغبان التاريخ حاكما ومحكومين مستبدا أم ضحايا.. نتحمل المسؤولية الكاملة عن تقديم نموذج غير جدير بثقة الشعب ولا مؤهل لقيادة الوطن وإدارة الدولة. وانطلاقا من ذلك ورغبة صادقة في الاحتماء المبكر من سونامي المقايضات الحزبية نهيب بمؤتمر الحوار والأشقاء خليجيين وعربا كما ندعو حكومات العالم ومنظماته الدولية لإخراج اليمن من مأزقه الوشيك من خلال:
1. تتويج مؤتمر الحوار بإقرار واضح عن براءة الوحدة من كل السياسات والممارسات التي أُلصقت بها طوال الفترة الماضية، والإعلان عن انتصار الإرادة الوطنية الحرة وإسقاط النموذج الاستبدادي السابق لحكم دولة الوحدة.
2. تكليف اللجنة العليا للانتخابات بالإعداد لعملية استفتاء شعبي على برنامج وطني مزمن يقدمه الأخ عبدربه منصور هادي، لفترة انتقالية أقصاها 7 سنوات يتحمل خلالها مسؤولية العثور على الدولة والحفاظ على الاستقرار، وتطبيع الأوضاع السياسية والعامة، وإنجاز المهام الاستثنائية وبمقدمها:
* الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد، وبناء منظومات الجمهورية اليمنية الاتحادية وأطرها وهياكلها وتقسيماتها وفقا للدستور المستفتى عليه.
* الضمانات: يقتصر حق الترشح للمناصب العليا في الدولة ـ رئاسات الجمهورية والنواب والوزراء ـ على أبناء المحافظات الجنوبية بما يعادل الفترة الزمنية 2011 -1994 التي شغلت فيها بقيادات شمالية ويعاقب بالطرد النهائي من الوظيفة العامة كل من أخل بأمانة المسؤولية أو أساء استغلالها لأغراض انفصالية أو دوافع انتقامية.
ويمضي النداء إلى القول: اليوم تتمايز الصفوف.. فمن كان مع الوحدة فليضع مصالحه الشخصية والحزبية وحساباته المناطقية والقبلية والمذهبية جانبا، وليدرأ عن نفسه شبهة استخدام الوحدة من أجل السلطة ومن اضطروا لشعار الانفصال نكاية بمن أساء للوحدة وجهل قيمتها.. ها هو الحق يعود إلى نصابه وفرصة النموذج الوحدوي المدني في متناولكم، فلا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. يا أبناء اليمن لا وقت يتسع محاججات السياسة وجدل الاستقواء بالأخطاء.. فالمستقبل يبدأ الآن وليس ما كان...
أدرك أن معظم ساسة الشمال لا يأبهون بالوحدة مقدار حرصهم على مقودها، ولهذا يظل دفاعهم عن المنجز موضع شبهة ما لم تصبح السلطة آخر اهتماماتهم، خاصة وأن أقصى ما يشغل مواطنيهم لا يتعدى مطالب الحياة الكريمة وسيادة القانون.