تجلس مع صغيرات قبيلتك، وتكتشف أنهن لا يعرفن كيف يمكن أن يكن غير ما تريده العائلة والأخ والأب، وربما العم والخال! تتوقف الأحلام بمجرد أن يصبح التفكير بها أكثر واقعية

بعد ثلاثة كتب أصدرتهم في مسيرتي الأدبية، كثيرا ما كنت أتساءل: هل هذا كل ما كنت أطمح إليه؟ هل هذا هو حلمي منذ أن كنت بذرة بحجم حبة فول، أن يكون في جعبتي عدد من المؤلفات؟ وهل عند هذا الحد يمكنني أن أتوقف عن بلوغ أي حلم آخر؟ أم إن عقلي الباطن يضمر لي الكثير من الأحلام المنسية، التي تجاهلتها لأنني كنت أدرك تماما ـ كما هنـ أنه لا سبيل للإفصاح عن أي حلم آخر، أو الإعلان عن أن يكون لديك عالمك الخاص الذي يمكنك أن تتنفس من خلاله، ويكون هو ملاذك الآمن.
وفي وطني الذي أحبه أنام كما تفعل بقية الفتيات، على الخوف من الحديث ولو همسا في رغبتنا العميقة لأن تكون لدينا خصوصية مختلفة، ألا نشبه أحدا، ألا ننتمي إلى بعضنا البعض، أن تكون لدينا ملامح مختلفة، أقدام صلبة وسيقان طويلة، أن يكون لنا شكل وصورة هي الأقرب إلى أرواحنا، ألا يقف جدار الجيران أمام تميزنا. وأنا على سبيل المثال حينما استطعت أن أصدر ثلاثة مؤلفات، لم يكن الأمر يستحق التباهي به، إذ لم يكن سوى حلم بدا الأكثر سهولة والأقرب إلى التحقيق عن غيره، هذا الذي لا يمكنه أن يكلفك شيئا، ولا يكلف قبيلتك من أن تشد همتها في الدفاع يوما عنك.
لكني لم أكن يوما فقط سارة، كنت أخرج على الدوام من ثوب الجدة والأم والقبيلة لتفكر في أحلام الأخريات في هذا الوطن، الصغيرات اللاتي استطعن الآن الهرب لتجديل شعورهن، ولجأن إلى الموضة والتحول، فوضعن المشابك الحديدية المزكرشة والربطات الملونة، ضاربين بالقوانين عرض الحائط، وذلك في محاولة للتحرر من النظام والتعقيد البالي في المدرسة.
أتابع يوميا برنامجا يأتي على قناة لبنانية، تستضيف المذيعة وزميلها الجزائري، عددا من الآنسات والسيدات اللاتي لم يتعبهن الحمل والولادة وبلادة رجالهن، فتتحدث كل واحدة منهن عن نشاطها الذي تقوم به، لكنه ليس جزءا من وظيفتها الاعتيادية، إنها تظهر الآن على الشاشة لتسوّق خلال دقائق، عن حلمها الذي تحول إلى مشروع علني، وهي حينما تتطلع إلى الكاميرا لتخبر المشاهدين عما تقوله لهم، تلمع عيناها، وتنفرج ابتسامتها لتظهر أسنان جميلة نظيفة ومرتبة، تتحدث عما تقوم به بكل سحر وجاذبية.
كل يوم أشاهد البرنامج، وأحاول أن أكبح كل الدموع التي تخرج مني، تتحدث العشرينية عن تصاميمها الجديدة لحقائب السهرة، وبعدها تأتي سيدة عادية من بيت عادي وتخبر المشاهدين عن الدكان الصغير الملحق ببيتها، وتقوم فيه بخياطة ملابس الأطفال، وطريقة تسويقها لمنتجاتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي اليوم التالي تأتي آنسة أخرى عادية، ومن بيت عادي، وتتكلم عن الكعك الذي تقدمه في مخبز بالاشتراك مع جارتها، وتسبقها أخرى تتحدث عن تكوين فريقها الجديد الذي يقوم على تنظيم الأعراس، وهكذا تتوالى القصص والحكايات، وأنا أتوجع، قلبي يتبلل من حزن بعيد، فنحن الفتيات العاديات جدا نعيش في وطن، لم يفهم أفراده ماذا يعني أن تكون مختلفا عن الآخرين، دون أن يعني ذلك أنه يتوجب عليك أن تمارس القفز فوق أسوار قبيلتك ومذهبك وسيرة أخلاقك.
إننا هنا نولد حتى نصل إلى ما نحن عليه، لا نتغير، ولا نتبدل، ولا نختلف عن بعضنا البعض، غير أننا نكبر، لا شيء آخر نقوم به، تجلس مع صغيرات قبيلتك، وتكتشف أنهن لا يعرفن كيف يمكن أن يكن غير ما تريده العائلة والأخ والأب وربما العم والخال، تتوقف الأحلام بمجرد أن يصبح التفكير بها أكثر واقعية، لا توجد أحلام جميلة يسعين لتحقيقها، بسبب الخوف الذي يسيطر عليهن، لذا فهن يفخرن بك لأنك استطعت أن تخرج من عزلتك، أنك أعدت لبس العباءة السوداء بطريقة مختلفة، لأن يكون لديك كتاب، ويصبح لديك عمود أسبوعي، فيكتفين بمراقبة نجاحك فقط!
إحساسي الآني بالألم يأتي أمام تلك الكائنات الصغيرة التي ألتقيها، ولا أجد لديهن في الحياة خيارات أخرى، غير تلك الخيارات المعتادة، لا أحد يمكنه أن يفجر كل طاقتهن نحو إبراز ما يطمحن إليه، تموت كل الرغبات فلا تجد أي احتفاء لأي جزء من موهبتهن. أتطلع بين حين وآخر إلى الصور في الانستغرام، أبحث من بين المئات من فتيات هذا الوطن، عن واحدة عادية، درست في مدرسة عادية، وتعيش في حي عادي، استطاعت أن تحقق ما تطمح إليه أن تكون شيئا مختلفا، بعيدا عن صور الطعام وأكواب الشاي والقهوة، فلا أجد واحدة تخلصت من شوائب الخوف، ومن الفشل، ومن صوت القبيلة، لكن في المقابل أتوقف أمام أخريات وجدن الدعم من أسرهن، وخرجن للوجود بأحلام عريضة؛ لأنهن ربما لا يشبهننا، فهن من أسرة غير عادية، ودرسن في مدارس غير عادية، وعشن في حي أبداً غير عادي، لذا تجد أعمالهن وحياتهن مصابة بتخمة من فرط الجمال والفخامة، فقط لأن هناك من آمن بهن، فقط لأنهن تخلين عن الخوف، وربما لأن هناك من آمن بأفكارهن، ولم يكن يرى الجدران أو يسمع أصوات القبيلة!
حتى أحلام صغيراتنا يخذلهن الآباء والوطن والأبواب، فيظللن طيلة حياتهن يعشن في مثالية الاعتيادية.