تكلفة الفرصة البديلة لمريض السكري هي أن يضحي باحتياجاته الصحية مقابل حفاظه على مأوى ومسكن مستأجر، أو مقابل توفيره لاحتياجات طفله التي لم تسلم من ارتفاع الأسعار

بدأت أختي التي تعمل كمثقفة صحية مبتدئة بأحد المستشفيات الحكومية، جلستها التثقيفية المطولة لأحد مرضى السكري، حيث إن قراءات فحوصاته المنزلية تدل على ضعف تحكم بدائه المزمن. وبعد الفحص والتمحيص تبين أن السبب يكمن في حميته الغذائية، حيث إنها غالبا ما تقتصر على فئات غذائية محدودة في غياب تام للخضار، لتبدأ بعدها مثقفتنا بمحاضرة طويلة عن أهمية وجود الخضراوات في حمية أي مريض بالسكري. لم تتوقف عند ذلك، بل استنكرت عليه أيضا عدم حرصه على هذا الجانب المهم من حميته على الرغم من جلسات التثقيف السابقة المتعددة، وعلى الرغم من أنه مصاب سكري مخضرم لسنوات عديدة.
انتهت الجلسة التثقيفية بالأسئلة المعتادة للتأكد من استيعاب المريض للمعلومة الصحية واحتفاظه بها ليأتيها الجواب صاعقا: أنا فاهم إن الخضار مهم، بس أنا لا صار عندي فلوس أشري خضار أبشروا، أنت تعرفين كم سعر الطماطم؟!.
جواب مريض السكري أعلاه يلخص كتبا وبحوثا في التثقيف الصحي وفي سياسات الصحة واقتصاداتها وفي المحددات الاقتصادية والاجتماعية للصحة، ويتجاوزها ليقف شاهدا على ضياع حقوق المواطن الصحية والاقتصادية. جواب مريضنا هو صفعة إيقاظ لمن يعتقد أن غلاء الأسعار هو مجرد شأن اقتصادي يجتره المحللون على صفحات الصحف وشاشات التلفاز بعرض مؤشرات لأسعار العقارات والسيارات الفارهة. جوابه أزاح القناع عن الحقيقة البشعة لتخلي المواطن عن أساسيات غذائية لصحته ومرضه بسبب غلاء الأسعار وضعف الدخل وليس جهلا بأهميتها واحتياجه لها. جوابه أظهر الواقع المعيب بأن تكلفة الفرصة البديلة لمريض السكري هي أن يضحي باحتياجاته الصحية مقابل حفاظه على مأوى ومسكن مستأجر، أو مقابل توفيره لاحتياجات طفله كالحليب الذي لم يسلم أيضا من ارتفاع الأسعار.
جواب المريض رفع الستار عن أداء الوزارات المبعثر، فلا وزارة صحة تعي ماهية سياسات الصحة ومحدداتها لتنافح عنهم لدى وزارة التجارة أو تشفع لهم بقسائم غذائية تخفيضية، ولا وزارة التجارة تعي أن غلاء الأسعار للمواد الاستهلاكية والخضار له آثار صحية لتفرض رسوما على التجار تستخدم عوائدها لتمويل القسائم أعلاه، ولا وزارة المالية تلتفت لواقع ضعف مداخيل نسبة كبيرة من المواطنين مقارنة بغلاء الأسعار، ولا وزارة الشؤون الاجتماعية تعي أن للضمان الاجتماعي أوجها تتجاوز الفقراء والمحتاجين، وهذا كله في غياب كامل لوزارة الاقتصاد والتخطيط من هذا المشهد المشتت. ومع ذلك فإن هناك حلولا عديدة لحماية المريض وحقوقه الصحية من تهالك المحددات الاقتصادية للصحة على المستوى الفردي والمجتمعي. أعلى هذه الحلول وأهمها هو التوأمة بشكل حقيقي وفعال بين رفع الدخل الفردي للمواطن وضبط أسعار المواد الاستهلاكية والخضار، ومن ثم تليها حلول مؤقتة عديدة قد تسهم بتحسين مؤشرات المحددات الاقتصادية الفردية، كالقسائم الغذائية لمرضى السكري وتوسيع دائرة الضمان الاجتماعي لتشملهم، وإقرار الرسوم الصحية على تجار المواد الاستهلاكية والخضار.
أكثر من ربع سكان المملكة مصابون بداء السكري، وتزداد هذه النسبة إذا ما أضفنا لهم الأصحاء من أصحاب عوامل الخطورة كزيادة الوزن والمدخنين، إضافة للأمراض المزمنة الأخرى، وبالتالي فإن السياسة الصحية للمملكة الحالية، والتي تركز على التوسع علاجيا بالمستشفيات والمراكز لا يمكنها مواكبة العبء المرضي الحالي والمستقبلي. السياسات الصحية تتجاوز جدران وزارة الصحة ومجلس الخدمات الصحية، فهي تُبنى حول المواطنين أصحاء ومرضى، وتأخذ بالاعتبار أن الصحة شمولية وليست الخلو من المرض فقط. السياسة الصحية الفاعلة هي التي تعي أن أهمية محددات الصحة غير الصحية، وخاصة الاقتصادية، غالبا ما تتفوق على نظيرتها الصحية، فمريضنا الحكيم يعي تماما أهمية أكل الخضراوات كمحدد صحي لتحسن داء السكري لديه، ليأتي جوابه مدويا: الراتب لا يكفي الطماطم.