عوامل الهوية الفردية جزئية. بمعنى أنه لا توجد هوية واحدة يمكنها أن تستغرق تعريف الإنسان. كل هوية في الأخير هي دلالة على بعد معيّن من هوية الفرد

موقفي من حياد الدولة -أي دولة- تجاه تنوع الهويات داخل مواطنيها ينطلق من مقدمتين أساسيتين: الأولى وصفية متعلّقة بمفهوم الهوية الفردية وانتماءاتها الجماعية، والثانية: قيمية متعلقة بمعنى العدالة. المقدمة الأولى تقول إن الهوية الفردية بطبيعتها متعددة وجزئية وقابلة للتغير. التعدد هنا يعني أن الفرد ينتمي لجماعات مختلفة في ذات الوقت، وكل هذه الانتماءات تسهم في تشكيل هويته الفردية. الفرد لديه انتماءات فكرية ودينية وعرقية وثقافية وفنية ورياضية...إلخ. نموذج على ذلك شابة سعودية مسلمة شيعية نسوية تتحدث العربية والإنجليزية تحب موسيقى الجاز ومن عشاق البرشا.
عوامل الهوية الفردية أيضا جزئية. بمعنى أنه لا توجد هوية واحدة يمكنها أن تستغرق تعريف الإنسان. كل هوية في الأخير هي دلالة على بعد معيّن من هوية الفرد. بالنسبة لصاحبتنا السابقة هويتها الدينية لا تعطينا تعريفا كاملا لها. أبعادها الأخرى اللغوية والثقافية والفنية والرياضية مفارقة لهويتها الدينية. إذن ليس هناك هويّة قالب يمكن أن نختصر الأفراد فيها. البعد الثالث للهوية أنها قابلة للتغيّر. بمعنى أن الفرد يمكن أن ينتقل من جماعة إلى جماعة مغايرة، أو أنه قادر على إعادة تقييم انتماءاته وإعادة ترتيب أولوياتها. صاحبتنا السابقة بإمكانها أن تتحول إلى ديانة أخرى، بإمكانها تهميش انتمائها المذهبي، بإمكانها الانتماء لجماعة لغوية أخرى، وكذلك بإمكانها تغيير انتماءاتها الفنية والرياضية. صاحبتنا أيضا قادرة على تغيير هويتها السياسية والانتقال لمواطنة بلد آخر. إذن الهوية الفردية متعددة وجزئية وقابلة للتغيير.
المقدمة الثانية المتعلقة بمفهوم العدالة قائمة على مفهومي الحرية والمساواة. أي أن الدولة العادلة هي التي تحقق أكبر قدر ممكن من الحرية والمساواة بين مواطنيها. المساواة في الحقوق والواجبات واحترام حريات الأفراد هي ما يميّز الدولة العادلة عن الدولة المستبدة. الدولة المستبدة مشغولة بطبيعتها بتحقيق دعاوى أخرى غير حقوق وواجبات مواطنيها. الدولة المستبدة عادة ما تطلق شعارات كبيرة تحاول من خلالها التهرّب من تحقيق دورها الرئيس. الدولة المستبدة باختصار لديها هدف خاص متجاوز لأهداف مواطنيها. الدولة العادلة لا بد أن تكون محايدة تجاه تنوع الهويات بين مواطنيها، لأنها أولا أمام واقع التنوع والاختلاف، وثانيا لأنها مطالبة بتحقيق المساواة وليس لديها مبرر للتمييز بين هوية وهوية أخرى. الدولة العادلة محايدة، لأنها لا تفرّق بين المسلم والمسيحي ولا بين الرجل والمرأة ولا بين الأعراق والانتماءات اللغوية والثقافية لمواطنيها. صاحبتنا التي تحدثنا عنها أعلاه يجب ألا تواجه تمييزا في وطنها بناء على هويتها الدينية والمذهبية واللغوية والفنية والرياضية. الدولة المحايدة لا تشكّل الهويات، ولكنها تعمل على حفظ حق كل فرد في تحقيق ورعاية هويته الخاصة.
لسوء الحظ التصور السابق للدولة ليس هو المتوافر حاليا في الشرق الأوسط. غالب الدول الحالية تقوم على فكرة الانحياز لهوية معينة على حساب هويات أخرى. الهوية الإسلامية والهوية العروبية هما الهويتان اللتان مارست هذه الدول الاستبداد من خلالهما. الدولة الإسلامية تجعل الهوية الدينية هي المعيار الجوهري للمواطنة. من هم خارج هذه الهوية يتحولون مباشرة إلى مواطنين من درجات أدنى، وفي أحيان كثيرة لا يبقى لهم إلا مسمى المواطنة. الدول العروبية كذلك جعلت الهوية العروبية الأساس والجوهر للمواطنة، ومن اختلفوا مع هذه الهوية تحوّلوا مباشرة إلى مواطنين أقل حقوقا وأقل قيمة من غيرهم. وكعادة الدولة المستبدة فإنها عاجزة عن تحقيق المساواة حتى داخل الهوية التي تدعي تمثيلها، لذا نجد أن الهوية الإسلامية تتشظى إلى هوية مذهبية سنية وشيعية، وهذه الهويات المذهبية تتشظى إلى هويات صغيرة داخلية يقمع كل منها الآخر. الدولة العروبية مارست ذات التمييز داخل الجماعة ذاتها. الدولة العروبية بالنسخة البعثية السورية لا تقبل إلا تفسيرها الخاص للعروبة وتقمع ما سواه. التجربة البعثية العراقية مارست ذات التمييز، والحال ذاته ينطبق على النسخة الناصرية. كل هذه الدول ترسب بامتياز في اختبار المساواة وتقوم على انحيازات مبدئية تقود للاستبداد.
الدولة الاستبدادية، بمعنى الدولة التي تميّز بين أفرادها وتنحاز لهويات معينة ضد أخرى تنتج هويات قلقة وحادة وعدوانية ومستعدة للحرب الداخلية في أي وقت. الدولة كما نعرف تمتلك شرعية ممارسة العنف وتطبيق القانون، وهي في صورتها المنحازة تميّز بين الهويات من خلال ممارسة القوّة والعنف. معادلة السلطة هذه تجعل الهوية المقموعة جريحة وراغبة في الانتقام، كما تجعل الهوية القامعة مريضة بمرض الاستبداد والقمع والفساد الأخلاقي، لذا فالدولة المنحازة تقود المجتمع إلى التفكك والتناحر، لأنها باختصار تهدم شرط التوافق العادل على الحياة المشتركة، وهو شرط المساواة.
الدولة المحايدة في المقابل قادرة من ناحية المبدأ على حل المشاكل المتوقعة لصاحبتنا التي تحدثنا عنها قبل قليل: الدولة المحايدة ستضمن ألا يجبر طفلها على تعلّم أن الدين الذي تربى عليه باطل وسيؤدي به وأهله للجحيم. الدولة المحايدة ستكفل لصاحبتنا خيار أن تتعلّم الدين أو المذهب الذي تريد أو لا تتعلّم أي تصورات دينية في طفولتها. الدولة المحايدة تكفل ألا تكون الدولة خصمها كنسوية، بمعنى ألا تتبنى الدولة ذاتها مفهوم الذكورة وتفرضه بالقانون. الدولة المحايدة لن تجعل موسيقى صاحبتنا ثانوية وموسيقى الدولة هي الأساس. الدولة المحايدة لن تفرض اللباس الذي تنحاز له الدولة على صاحبتنا. باختصار الدولة المحايدة قادرة على جعل حياة هذه الإنسانة أكثر يسرا وعدالة. الدولة المنحازة لهوية معينة دون هوية أخرى داخل مجموع المواطنين في المقابل تؤسس للتمييز ضد صاحبتنا وتجعل من حق الدولة ترتيب الهويات وبالتالي ترتيب المواطنين. الدولة الإسلامية والدولة العروبية تفشل في احترام صاحبتنا، لأنها تعتقد أنها غير كفؤ لتشكيل هويتها الفردية وانتماءاتها الجماعية، وتعتقد أن الدولة هي من يفترض أن يقوم بهذه المهمة.
في الختام الدولة المحايدة هي الأقدر على التعامل مع طبيعة هويات الأفراد، وهي الأقدر على تحقيق معدلات أعلى من الحرية والعدالة والكرامة لمواطنيها.