أصبحنا أمة تتناحر على جميع الجبهات، بينما العدو يتماهى في غيه وعدائه وانتهاكاته.. انشغلنا بالتصنيفات والتفاهات والقشور، وانشغل العدو بالتخطيط والتنفيذ والتحدي
في خضم ما يحدث هذه الأيام من همجية وجنون غير مُسبق، من تجن وتعد من الإنسان على أخيه الإنسان، من سادية في القتل والتنكيل تفوقت على كل ما قرأناه وسمعناه عن أفعال المغول والتتار! وأنت تتابع مجريات الأمور، تتكشف أمامك مشاهد كشريط سينمائي لفيلم مرعب، ولكن لا تستطيع أن تخرج من صالة العرض لتعود إلى الحياة الطبيعية؛ لأن الحياة أصبحت هي الصالة!
تتلفت من حولك باحثا عن منطق، باحثا عمن يستطيع أن يفسر لك ما يجري، ولكنك تجد أن الغالبية ـ إن لم يكونوا من ضمن الشخصيات المرعبة ـ تجدهم من المؤيدين لها؛ لأنها ببساطة خرجت إليهم بقناع المنقذ! لقد تم كي الوعي الجمعي، وتعرضت المجتمعات لصدمات ثقافية وفكرية، لم يستطع العقل غير المدرب على التفكير والتحليل، على البحث والدراسة، على طرح الأسئلة المحورية، لم يستطع أن يواجه تلك الهجمات! لقد كان عقلا متلقيا، وماذا ننتظر من عقود من التلقين والتحفيظ وإجلال النقل دون استخدام العقل! لقد تحول قلة من الأفراد إلى أيقونات مقدسة علقت على الأعناق، بل دخلت إلى الأرواح، وشاركت الأنفس في مساحة الجسد، وأصبح استئصالها كمن يُخرج الروح من الجسد! وعندما تمخضت الأيام عن أحداث لم يتسطع العقل العادي غير المدرب على استيعابها، توجهت إليهم الأنظار من أجل تلقي التفسيرات والتبريرات، فكانت الخطوة الثانية من الاختراق!
بعضهم ظهر كفرسان محبة وسلام وعودة إلى الله.. وآخرون حملوا راية حقوق الإنسان والمساواة والحرية، وتجمع حولهم الناس لحلاوة الكلم وسمو الرسالة، تمسكوا بهم كغريق وجد قشة في بحر هائج، ولكن لم تكن هذه القشة سوى سيوف سلطت على الرؤوس.. من يتقبل فهو منا ومن ليس منا لا يحق له حتى الحياة، كانت رسالة الفريق الأول، ومن يتقبل فهو راق مثقف متمدن، ومن يرفض فهو جاهل يجب أن يتم تثقيفه، وكل الطرق مشروعة، كانت رسالة الفريق الثاني! وصدق الأتباع.. بل زادت الأعداد بشكل مخيف، وتمترسوا خلف تلك الشخصيات للدفاع عنها.. ليس دفاعا عن فكر أو أيدلوجية؛ لأنهم ببساطة لا يفقهون أبجديات هذا الفكر أو ذاك، فإن تم الحوار معهم سيتضح لك عدم قدرتهم على المجاراة، خاصة إن وضعتهم في خانة اليك، سيرفعون حينها الغطاء عن مخازن الشتائم والتصنيفات، ويبدأ الهجوم الشخصي بعيدا عن محور قضية النقاش! مرة أخرى ليس عن عجز ـ حسب مفهومهم ـ بل دليل قوة لإدخال الرعب في القلوب، وإبعاد عن الساحة كل من تسول له نفسه بالاعتراض أو السؤال أو المحاسبة! إن هجومهم العشوائي البعيد كل البعد عن المبادئ والأخلاقيات التي ينادون بها، يُستخدم فقط للدفاع عن أفراد.. عن أيقوناتهم المقدسة التي يجب ألا يجرؤ أحد ـ أي أحد ـ أن يقترب منها!
وتم الانقسام، وتم المراد وأصبحنا أمة تتناحر وعلى جميع الجبهات، بينما العدو يتماهى في غيه وعدائه وانتهاكاته! انشغلنا بالتصنيفات والتفاهات والقشور، وانشغل العدو بالتخطيط والتنفيذ والتحدي... يستخدم سياسة القضم والضم، وها هو بيت المقدس تم تحديد جزء منه لهم، ويتم تدنيسه بأقدامهم القذرة.. يدخلونه بحراسة مشددة، ومن يقف أمامهم سوى أهلنا في أرض الرباط، يسقط منهم الشهداء، ويعتقل الشباب والشيوخ والنساء والأطفال! وعمليات الحفر مستمرة تحت المسجد الأقصى... دقت أجراس الخطر من فلسطين المحتلة، ولم نسمع، ولم نأبه، ولم ننتبه.. ولما ننتبه؟! فلدينا ما هو أهم، ما هو أقدس... أفراد منا مقدسون يجب أن نصرف في سبيل الدفاع عنهم كل غال ونفيس.. هل سيهدم المسجد الأقصى؟ لقد تم حرقه قبل ذلك ولم نفعل شيئا، وها هو ما زال واقفا.. ثم مساجد تدك وكنسائس تحرق وتسرق، وحسينيات تفجر.. الإنسان بذاته يفجر ويمزق! إن ما تفجر وهدم وحرق هو بوصلتنا... وأصبحنا الإخوة الأعداء ندمر أمتنا، والمستثمر، والمستفيد، إن لم يكن المحرك والممول والداعم هو العدو الصهيوني! منذ أن أصبحنا نراهم كدولة، تمَّ كي الوعي، فلم نعد نراهم كعدو مغتصب.. وبالتالي لا يوجد مواجهة على الأقل على المستوى الذي يخشاه وكان يتوقعه، فاستدار ليضرب من العمق لا الخلف، وقلب أمتنا هو وحدتنا... فلنستمر في عداء أمتنا، ما زال فيها شيء من الحياة يجب تدميره... ما كان لبني صهيون شوكة في الحلق أصبح يقدم لهم اليوم على طبق من فضة!