أحمد التيهاني

يقول القائلون كلاما جميلاً ومتواترا عن دماثة أخلاق أهل عنيزة، وعن حبهم المطلق للأحياء والأموات والحياة، وعن خطابهم المملوء بألفاظ اللطف والأدب، وتتأكد هذه الأقوال عند العارفين بنماذجهم البشرية الممتازة، وليس أدل على صدقها من شخصية حمد القاضي الذي لا يصدق عليه وصفٌ أدق من: معلم الناس الدماثة.
كل فرد في الوسطين: الثقافي، والإعلامي، يدعي وصلا بحمد القاضي، وما ذاك إلا لأنه صديق الجميع، وليس ذلك الادعاء ناجما عن شعور وهمي ينتاب عارفيه، وإنما هو حقيقة تشبه الحب الذي لا يختلف حوله مع الجموع إلا إنسان يعاني نقصا في إنسانيته، ومن نقصت إنسانيته، تأصل فيه الشر، وغلبت عليه المثالب كبيرها وصغيرها، وظاهرها وخفيها.
نعم؛ كلٌّ يدعي وصلا بالقاضي، وكلٌّ يراه أقرب إليه من الآخرين، وذلك وهم، لأنه قريب من المحيطين به أجمعين، قربا تكاد مسافاته تتساوى، فأين يجد الناس إنساناً على هذه الصفة، إلا إذا كان إنساناً.. إنساناً..
له على التواصل قدرة ليست إلا له، وكأن ساعات يومه أطول من ساعات أيام الآخرين، أو أن مشاغله أقل من مشاغلهم، بينما هو مشغول مثلهم وأكثر، لكنه حريص على بقاء حبال الوصل ممتدة إلى كلّ الذين عرفهم، حرصا يشي بنبلٍ نادر، وقدرة نادرة في الوقت ذاته.
إنْ فاز أحدهم بجائزة، كان حمد القاضي أولَ المهنئين، وإنْ حصل آخر على درجة علميّة، كان القاضي أسبق المباركين، وإن أجاد ثالثٌ في مقالة، أو أبدع في قصيدة، كان هذا الحمد أول المشيدين، وإن لم ترق له من رابع فكرة أو فعل، كان أول المعاتبين عتابا يشبه الإشادة، ويلتبس بالمدح، لكنه يوصل الرسالة، بدون تجريحٍ، وبدون خلق ردة فعل تحول العتاب إلى عنادٍ أو غضب أو خلاف.
حين كان القاضي يرأس تحرير المجلة العربية، كان كل من امتلك لغة وقلما يشعر بأنه ينتمي إلى العربية، وصدق محمد عبده يماني ـ رحمه الله ـ حين قال عن القاضي والعربية: انتشل المجلة العربية من الأبراج العاجية فأنزلها إلى مستوى الناس وجعلها في متناول الناس وأقبل الناس عليها يقرؤونها ويكتبون فيها ويتناولونها، لكن النزول من الأبراج العاجية لم يكن إلى الحضيض، وإنما كان إلى الجمال والأصالة، لتبقى العربية عربية لا تحتفي بغير ما يصلح مكتوبا. يقول الراحل الكبير غازي القصيبي في رسالة وجهها إلى القاضي بعد رحيله عن عربيته: وأذكر للمجلة العربية، في عهدك، ضمن ما أذكر حفاوتها بالفصحى وإعراضها عن الشعر النبطي في عهد أصبح فيه الشعر النبطي (كالسونامي) يجتاح ما أمامه، ومن أمامه.
وحين كان يقدم رحلة الكلمة، كانت رحلته الأنموذج الذي يحلم الطامحون بإنتاج أمثاله، وعرفنا من خلال تلك الرحلات، من لم تكن الوسائل مهيأة إلى معرفته، في زمنٍ لا نت فيه، ولا تويتر، ولا مواقع إلكترونية للصحف، بل ولا صحف تصل بانتظام، أو كتبا تتوافر إلا ما كان على هامش القرطاسيات مما كنا نعده كنوزاً معرفية، وأبوابا مشرعة إلى بهو الثقافة، تسد الرمق، وتقيم الصلب، بيد أنها لا تشبع النّهم.
ليس حمد القاضي في حاجةٍ إلى بضع مئات من الكلمات في بروفايل، بعد أن شهد له الأعلام.. الأعلام، من أدباء بلادنا ومؤرخيها؛ شهدوا له شهادات تصف قلمه وشخصه كما هما. يقول عنه الشيخ حمد الجاسر رحمه الله، مؤكدا على إحدى مروءات القاضي: من صفاته (الوفاء)، ولئن أوضح مؤلفه: الشيخ حسن آل الشيخ: الإنسان الذي لم يرحل جانباً من هذا، حيث تصدى فيه لإبراز الجانب الإنساني من حياته, وأمامه نواح أخرى من حياة الشيخ كانت أقوى صلة به بمجتمعه, ولكن القاضي نظر – فيما اتجه للحديث عنه – نظرة من أدرك أن (الوفاء) أقوى أساس ترتكز عليه تصرفات الإنسان الأخرى.
حمد القاضي حاصل على الشهادة الجامعية من كلية اللغة العربية بالرياض, وشهادة الماجستير في اللغة عربية والأدب من القاهرة، وقد عمل في البدايات مديراً عاما للعلاقات العامة والإعلام بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ثم ملحقا ثقافيا بوزارة التعليم العالي، ثم رئيسا لتحرير المجلة العربية حتى عام 1428، وعضوا في مجلس الشورى منذ عام 1422، وهو أمين عام مجلس أمناء مؤسسة الشيخ حمد الجاسر الثقافية الخيرية، وهو عضو في عدد كبير من المجالس والجمعيات، وحاصل على مثلها من الجوائز، ومكرم في غير مناسبة وصالون ثقافي.
لا مساحة لكلام يطول عن مؤلفاته ومقالاته ومشاركاته الإعلامية، وليس أبلغ من أن نصفه بما وصفه به الدكتور عبدالعزيز الخويطر، حين قال عنه إنه: لسان عفٌّ وقلم نزيه.