عندما كنا نشكو لسنين طويلة من عدد ليس بقليل ممن يعملون في سلك القضاء، ونقول إنهم لا يعيرون الوقت احتراما ولا يأبهون بمعاناة الناس المترتبة على غيابهم وتأجيل جلسات المحاكمة فضلا عن إنهائهم لدوامهم مبكرا، تارة قبل صلاة الظهر وتارة قبل الساعة الثانية ظهرا، وتارة في منتصف فترة الدوام، بذرائع غير مقبولة، كان يقال عنا إننا متحاملون.
وعندما كنا نشكو لسنين طويلة من بعض من يعملون في سلك القضاء ونقول إن الأخبار تفصح عن تورطهم بقضايا فساد مالي كان يقال عنا إننا نحارب أهل الخير والصلاح.
أقول كنا نشكو، ولسنين طويلة نعاني، وكانت مؤسسة القضاء تنفي بشكل مباشر أو غير مباشر كل الاتهامات التي توجه لمنسوبيها، وتزعم أن هناك تحاملا عليها وعلى منسوبيها، وأن تلك الشكاوى وحالات التذمر لا تعدو أن تكون حالات فردية ولم تصل لحد الظاهرة.
وظل الناس يشكون دون أذن صاغية لهم، وظل أولئك البعض يتمتعون بالحصانة التي خدمتهم كثيرا ليبقى الحال الذي هم عليه كما هو، بينما الناس تعاني وتتذمر من واقع ما يجري في المحاكم، خاصة فيما يتعلق بهدر الوقت وعدم احترامه من قبل بعض القضاة، والذي عليه وبسببه تترتب خسائر لا تحصى، وتضيع حقوق، فضلا عن حجم المعاناة المترتبة على عدم البت والحكم في قضايا عاجلة ومهمة لكل أطرافها.
جاء الوزير الحالي ومنذ أن باشر عمله وهو يحمل فكرا استراتيجيا منفتحا لتغيير واقع بيروقراطي، وآليات عمل لم تعد صالحة لهذه المرحلة، وسعى لأن يقنن بعض تلك الآليات ليرفع الحرج عنه وعن وزارته المتهمة ببعض ما قلناه هنا، سعيا منه لتنفيذ وتطبيق توجيهات ولي الأمر المتعلقة بتطوير القضاء، لكنه واجه رفضا ليس بالهين، وتحول هذا الرفض في فترة إلى اتهامات، ثم إلى ما يشبه الحرب الإعلامية عبر وسائل الإعلام الجديد، ثم أخيرا عبر عريضة رفعها 200 قاض لولي الأمر، تتضمن جملة من الاتهامات للجهاز العدلي.
ما يهمني هنا أن ما أسمته وسائل الإعلام بعريضة الـ(510) قاض التي ظهرت إلى السطح ونشرت في وسائل إعلامنا قبل أيام متضمنة ردا على ما ورد في عريضة الـ(200) قاض، كان مضمونها - وإن جاء متأخرا لعدة عقود- يحمل إثباتا وتأكيدا وتعزيزا لكل ما كنا نشكو منه منذ سنين طويلة، فقد حملت العريضة ما يؤكد أن من بين القضاة من يتساهل في مسألة الدوام وإنجاز المعاملات، ومنهم حاملو الفكر الوافد على سلفية هذه الدولة، ومن هم ضد سعة الأفق الشرعية أو من اخترقهم عن طريق التسلل السلبي أصحاب رؤوس الأموال وسارقو أراضي الدولة والمتهربون من تنفيذ الأحكام.. كما أن العريضة ساقت الكثير من التهم لهؤلاء المعترضين على تطوير القضاء، كون هذا التطوير والإصلاح يكشف قصورهم ويجلي المصالح الخاصة التي سوف تفوتهم بعد تطبيق مبدأ الشفافية والنزاهة من خلال تفعيل الجلسات وربط عمل المحاكم كافة بحوسبة شفافة أمام الجميع.
كثيرة هي الأشياء التي يشكو منها المواطنون ويتناولها الإعلام بهدف الإصلاح، لكنها تكذب وتهمش، ثم بعد عقود يشهد عليها أهل البيت أنفسهم!